
عشنا عقوداً نرى ونسمع ونفكر كما لو أنّنا كائنات حيّة في مستعمرة تملكها مخابرات الأسد. عائلة الأسد تهيمن، وهواء الخوف نتنفسه غصباً عنّا، إذ لا حلّ آخر إلا بالتنفس بأكسجين الأسد.
بشكلٍ ما كنّا كائنات تعيش في مملكة الأسد، لا أقول كائنات أسدية. على الأقل في الأعمال كنّا أسديين بطريقةٍ ما، غصباً عنّا.
كنّا مثل قطعان يُوشم جلد كلّ ثور وبقرة فيها بوشم الأسد، ومن يرفض فهو معارض أو خائن أو ناقص الوطنية، ناقص “الأسدية”.
على المستوى الشخصي، عملية التخلّص من القشرة الأسدية تحتاج وقتاً.
(بعد جلسة مع أبو شكيب، الشاعر منذر مصري، في مرسمه “الغواصة” في حيّ الأمريكان باللاذقية..)
2
يقول قريب لي من الطائفة: جماعتنا بطروا. العسكري منهم كان يعتقد نفسه بمستوى النجوم. على طابور الخبز كان أحدهم يقتحم ويمد يده صارخاً: “عسكري”، فيأخذ ما يريده من أرغفة ويمضي. ونحن ننتظر ساعة بعد ساعة أو ساعات.
يتابع قريبي: وماذا يعني أنّك عسكري؟ يعني أنت ذاهب لتحارب على الجبهة؟ ووقوفك معنا في الطابور يؤخرك عن قتال إسرائيل؟!!
3
يقول صديق علوي: مجازر الساحل وقعت بقرار أمريكي ودولي.
أقول له: المجازر عقاب إسرائيلي على التحالف مع إيران. فلا تقعوا في ذات الخطيئة بتحالفكم مع روسيا أو إسرائيل. إياكم والتحالف مع أيّ جهة إقليمية أو دولية غريبة عن المنطقة وغريبة عن شعب سوريا، كيلا تدفعوا أثماناً باهظة مستقبلاً. الأقليّة لا يجوز أن تتحالف إلا مع شعبها ووطنها السوريين، وإلا فستدفع دوماً أثماناً لا قِبَل لها بها.
4
هل يُعقل أن يقارن شيوعي أو علمنجي بين كأس العرق وبراميل الأسد أو كيماوي الأسد؟ كأنما هذان الكائنان يقولان: “نستطيع العيش مع قمع الأسد ومعتقلاته ونهبه وغازاته الكيماوية وبراميله المتفجرة، طالما هو لا يمنعنا من شرب العرق ولا يمنع نساءنا من ارتداء المايوه على شطّ البحر”.
الأسد عند هؤلاء الأوغاد أفضل من الشرع لهذا السبب فقط!!؟
لسان حالهم: نعم لإبادة المدنيين، نعم لكأس العرق، نعم للمايوه!!
5 – يوميات دمشق
سورية امرأة في الأربعين نُقلت إلى المشفى إثر مرض عضال، وما زالت بعد خمس عشرة سنة تتردد إليه ما بين الفينة والأخرى.
سورية الآن في الخامسة والخمسين، زارها ابن لها بعد انقطاع وقطيعة مقدارها خمس عشرة سنة. وعندما رآها ذُهل لحجم الهلاك في وجهها وبنيتها. كان لا يزال يحتفظ لها في ذاكرته بأجمل صورها أيام كانت امرأة ناضجة جميلة وقوية. ما بين صور الذاكرة وصورة الواقع احتار الرجل، لكنه بعد أيام من عودته قرر أن يستسلم للواقع معلناً لنفسه ولأصدقائه أنّ سوريا صارت أماً، وأنه يجب أن يكون ابناً بارّاً…
6
على بالي معاودة سيرة الشباب.. في الشام اشتهيت الحب من جديد، أعبر الطرقات وأجلس إلى أماكن دمشق بين السوريات. ما أجمل أن يحب المرء هنا. يا الله لو يعود بي الزمان مراهقاً أو شاعراً على الأقل.
السوريات مظلومات في جمالهن الباهر، حنانهن الدفّاق، ذكائهن المتروك… المهجور… عندما نهاجر نحن الشباب الرجال نهجر جمالهن وحنانهن وصبرهن وكبرياءهن. أكاد أقول كمالهن، والكمال لله.
الأسدية ظلمت كلّ سوري وسورية، كلّ حجر وشجرة في هذه البلاد. ظلمت الجمال والذكاء واللطف…
7
رويداً رويداً، مثل العسل أو السمّ يسري الحنين في البدن. يستيقظ الوجدان القديم من دم بلادنا الذي كوّن لحمنا. كشعرة فثقب ثم طاقة صغيرة، يصحو على وقع خطوات في بوابة الصالحية، جادة الشهداء، مقهى الروضة، سوق ساروجة، مقهى لاروش، شارع الحمرا، الشعلان، المرجة، جرمانا…
8
الصراع السياسي الداخلي شكل علوي من الصراع الاجتماعي.
جاء السمر من الشرق.. مئات آلاف الشبان من دير الزور المدمرة ينتشرون من حدود لبنان حتى حدود ألمانيا. الشبان الذين نشؤوا في المخيمات لم يبزغ شعر لحاهم، يحملون بنادق، يقفون بخجل أو تعب واضح عند الحواجز عبر طرقات سورية.
أينما ذهبت في مدن “شمال راين” الألمانية ستجد اسم دير الزور منقوشاً على الجدران بدهان أحمر وأزرق وأبيض وبكل الألوان. في شوارع وسط بيروت يدير شبان سوريون سُمر في الثلاثين كراجات صغيرة أو كبيرة في العاصمة اللبنانية. هؤلاء الشبان الصلبون بلهجتهم المميزة وفقرهم هجّرهم بشار الأسد وجيشه وجيوش أخرى. سرعان ما كوّنوا مجموعات صغيرة لها حضورها في كل مكان من خارطة الشتات السوري.
علينا أن نفهم أنّ المشرّدين المظلومين الذين فقدوا بيوتهم وأعزّاءهم طوال حرب التهجير الأسدية سيأتي يومهم فيصلون إلى السلطة بطريقةٍ ما، يتسرّبون إلى مواقع القوة، لأنهم لم يكونوا ولن يكونوا ضعفاء. العنف الذي مارسه عليهم الأسد يتحوّل إلى عنف يمارسونه بالتقسيط تجاه أنفسهم، تجاه بقية السوريين، وفي كل مكان يتواجدون فيه. كلّ فعل له ردّ فعل يساويه في الدرجة.
إنه زمن البداة – ليست البداوة تهمة أو انتقاصاً من كرامة، بل هي نمط معاشي – زمن الأطراف المهمّشة منذ عقود، بل منذ قرون.
يقول قريب لي من الطائفة، مستنكراً على من يستنكر سقوط النظام ومجيء سلطة جديدة: سنّة الكون أن يسقط طربوش ويأتي طربوش. أين الغرابة؟ ليست المرة الأولى في تاريخنا على أية حال.
9
دعونا نتعاون لنفهم ونفسّر بشكل صحيح هذا الشكل الذي لا سابق له للسلطة في سوريا بعد سقوط الأسد – والأسدية – هذه الخارطة الجديدة التي لا تبزها تعقيداً أيّ خارطة في تاريخ سوريا السياسي أو في تاريخ بلد عربي أو شرق أوسطي.
من التوصيف الدقيق يتولّد الفهم الصحيح – المطابق – للواقع، وبناءً على التوصيف الدقيق والفهم الصحيح توضع خطة العلاج…
المصدر: تلفزيون سوريا