7 أكتوبر” ولحظات الجنون”

  محمود صلاح

“يمكن أن تكون لدينا آراء مختلفة بشأن المقاومة المسلّحة، لكنني أعتقد أن الأكثر صدقاً، ودقّةً تاريخيةً، أن نقول إن انتفاضة 7 أكتوبر كانت عملاً من أعمال المقاومة المسلحة”.. لم تكن تلك الكلمات لناشط سياسي عربي أو إسلامي، بل للفيلسوفة الأميركية اليهودية، والمفكّرة النسوية، جوديث بتلر، التي تنتسب إلى عائلة يهودية تعرّضت للاضطهاد النازي، وقُتل عديدون منها على أيدي القوات النازية في المجر. وتُعتبر بتلر من روّاد الجيل الثالث من مدرسة النقد الاجتماعي، أو مدرسة فرانكفورت. وبرغم أنها كانت تصرّح برفضها الفعل السياسي العنيف، قدّمت في تقييمها “7 أكتوبر” (2023) تقييماً جديداً يرتبط بالسياق التاريخي، لا لحظة الحدث وحدها، بحيث لا يمكن البدء بقراءة المشهد واختزاله في لحظة ذلك اليوم فحسب.

ولم تكن بتلر استثناءً في الفكر الغربي، بل كانت جودي دين، الراديكالية والمحاضرة في السياسة ونظرية الإعلام، متفهّمة إلى حدّ كبير ما جرى في ذلك اليوم، بعد كتابتها مدوّنةً في إبريل/ نيسان 2024، افتتحتها بقولها: “كانت لحظات من الحرّية حطّمت توقّعات الصهاينة بالاستسلام للحصار والاحتلال. ففي تلك اللحظة شهدنا أفعالاً من الشجاعة والتحدّي بدت مستحيلةً في مواجهة يقين الدمار الذي سيليها”. وانتقدت دين بشدّة النظرة السائدة في الغرب إلى الفلسطينيين، وتجعل إنسانيتهم مشروطةً بمعاناتهم، ومن ثمّ تسود النظرة التي تُميّز بين الفلسطيني البريء، طفلاً أو امرأة أو كهلاً. أمّا من يحملون السلاح (الفلسطيني السيئ) فهم وحوش يجب القضاء عليهم، والتخلّص من تنظيماتهم، التي تُصوَّر معاديةً لليهود أو للسامية، بل للحضارة الغربية برُمّتها. ومن هنا توصّلت دين إلى أن الفلسطينيين يحصلون على التعاطف فقط، ولا يحصلون على التحرّر من الاحتلال، بل يُحمَّلُ مسؤوليةَ إبادة الفلسطينيين أولئك “السيّئون” أو “الإرهابيون”، لا الاحتلالُ وترسانته العسكرية الوحشية.

وثمّة أصواتٌ يهودية دافعت عن حقّ الفلسطينيين في المقاومة، فقد صرّحت الناشطة الأميركية اليهودية في حركة أصوات يهودية من أجل السلام، أرييل كورين، أن “عملية حماس تتماشى مع حقّ الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال”. وإذا كانت العملية في “7 أكتوبر” قد فاجأتنا وأذهلتنا عندما كسرت حاجز اليأس لدى الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية، لحظات، فإنها أحدثت (ولا تزال) جدلاً عارماً بعد عامَين من إبادة وحشية تجري ليلاً ونهاراً، لم تترك إنساناً ولا شجراً ولا حيواناً ولا حجراً إلا فتكت به، وقد يلوم كثيرون منّا عملية المقاومة، وأنها كانت من الحماقة والجنون، ما أدّى إلى تغوّل الاحتلال وإصراره على الإبادة والتجويع والتهجير، من دون إدراك واقعي لموازين القوة القائمة، علاوة على أنها منحت فرصةً استثنائيةً لتوحيد المجتمع الإسرائيلي للتضامن خلف اليمين الصهيوني، وما تلاه من خسائر كارثية التكلفة، ومُعطلّةً لأيّ استحقاقات في الأرض، وهو ما لخّصه الكاتب اللبناني جليبر الأشقر: ” إذ لا يصعب فهم منطق (طفح الكيل) الكامن خلف هجوم حركة حماس المضادّ، فمن المشكوك فيه أكثر بكثير أن يُسهم هذا الهجوم في التقدّم بالقضية الفلسطينية إلى أبعد من الضربة التي أنزلتها بثقة إسرائيل في نفسها”، في مقابل أصواتٍ عديدةٍ ترى أن ما قامت به المقاومة هو عين الصواب، وأن الحرية لا تُمنح، بل تُؤخذ بالدماء والصمود والتضحيات.

تطرح عملية طوفان الأقصى ونتائجها المسألة الفلسطينية، وتعيد إبراز المظالم التاريخية للفلسطينيين بإلحاح وجدّية

والواقع أنه لا يمكن لوم المقاومة وحدها على الهجوم، فالاستيطان والتطبيع، والقبول العام بوجود الاحتلال لدى النظامين العربي والدولي، وإهمال القضية الفلسطينية، واختفاء خطاب سياسي فلسطيني قادر على مجرّد توحيد الصفّ الوطني الداخلي… كلّها أسباب دافعة، في حين تمكّنت سردية حقّ إسرائيل في الوجود، ودفاعها عن النفس، من تغييب أيّ خطاب فلسطيني حول حقّ الشعب الفلسطيني في الأرض ومقاومة الاحتلال، واكتفى العالم بمسألة توفير الطعام والاحتياجات الأساسية لشعب يائس يقبع بالكامل خلف الأسوار، يُعاقب ويُقمع في كل لحظة، حتى أضحت غزّة سجناً كبيراً، لا يبعد كثيراً من المستوطنات السرطانية في جسد الضفة الغربية والقدس، فلم يكن ثمّة أمل لأمّة تبحث عن مستقبل.

وإذا كان زعيم “حماس”، الراحل يحيى السنوار، قد صرّح في 2018 لـ”لا روبابليكا” الإيطالية أن “حرباً جديدةً ليست في مصلحة أحد، وبالتأكيد ليست في مصلحتنا. من يرغب حقّاً في مواجهة قوة نووية بالمقاليع؟!”، فما الذي جرى حتى يغيّر القائد موقفه، ويطلق هجوم “7 أكتوبر”؟… قد لا توجد إجابة يمكن الاتفاق عليها أو التحقّق منها أبداً، ولكن أحد علماء الحركات الاجتماعية، اليهودي البلجيكي زولبرغ، صاغ “لحظة الجنون”، أي اللحظة التي يصبح فيها كل شيء ممكناً تحقيقه، فتلك اللحظات مصدر انتعاش وصعود نجم الحركات الاجتماعية من خلال قدرتها على استدعاء أنصار وجماهير جدد وجذبهم، فالمستحيل يصبح ممكناً وواقعاً، فيعتقد ناشطو الحركة أن فتح “لحظة الجنون”، والانخراط فيها، من شأنه تغيير سردية الصراع الجامدة، وخلق دورة تعبئة جديدة. وهو على الأرجح ما دار في خَلد صانعي لحظة “7 أكتوبر”.

وبالرغم من الإبادة الجارية، تطرح عملية طوفان الأقصى ونتائجها المسألة الفلسطينية، وتعيد إبراز المظالم التاريخية للفلسطينيين بإلحاح وجدّية، فلا يمكن التغاضي عنها بعد الآن، أو كما قالت جودي دين: “لقد وضع الفلسطينيون بأجسادهم وحياتهم سؤال التحرّر في جدول أعمال العالم”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى