هل تشهد مصرُ هجمةً على النقابات المهنيّة؟

شريف هلالي

                                                                                       

يُلاحظ أخيراً بدء هجمة على نشاط النقابات المهنية في مصر. وقد بدأت الحكومة بإجراءات عدّة، استهدافاً للعمل النقابي وسلطة الجمعية العمومية فيها، وبالتدخل في انتخاباتها. والمفروض أن هذه النقابات مستقلّة بحكم نصّ الدستور، ولا ينبغي التدخّل في أنشطتها، وهو عين ما حدث سابقاً مع نظيرتها العمّالية، من خلال إلغاء وجود النقابات المستقلّة وتحجيمه، والاكتفاء بالاتحاد الرسمي التابع للدولة. وبدأت هذه الإجراءات في أكثر من اتجاه، سواء من الحكومة أو من أذرعها أو من خلال قرارات قضائية، فهل تصبح تلك النقابات في عين العاصفة، خصوصاً مع استمرار انتخاب نقباء محسوبين على تيار الاستقلال؟

يبدو أنّ تلك الإجراءات تعبّر عن انزعاج أجهزة الدولة من نشاط النقابات المتزايد، خصوصاً تلك النقابات التي تتمتع بكتلة كبيرة من العضوية، تؤهلها للقيام بأدوار سياسية ومهنية بامتياز، لا سيّما مع ثقل حجم جمعياتها العمومية وامتدادها جغرافياً، وإمكانية تحريكها من جانب مجالس النقابة والنقابات الفرعية في المحافظات. وظهر ذلك من خلال حراك احتجاجي مستمرّ لنقابات المحامين والأطباء والصحافيين دفاعاً عن حقوق أعضائها ضدّ عدد من التشريعات والقرارات الإدارية، التي صدرت أخيراً، وهو ما تجسّد أثناء إقرار مناقشة مشروعات قوانين الإجراءات الجنائية والمسئولية الطبّية، وقرار رفع الرسوم القضائية. واللافت أن هذه التشريعات كلّها تمسّ أعضاء تلك النقابات، وحقّهم قانوناً في أن تناقشها جمعيات النقابات العمومية، وفي أن تعلن موقفها منها، كما تمسّ حقوق المواطن في المحاكمة العادلة، وتحجّم الدور القانوني للمحامين دفاعاً عن موكّليهم، وهو ما أدّى إلى تبنّي نقابة المحامين موجةً من الوقفات الاحتجاجية خلال إبريل/ نيسان الماضي، ولا تزال مستمرّة، وهي احتجاجات على قرار برفع الرسوم القضائية. ولم تقتصر هذه الوقفات على القاهرة، بل امتدت في باقي المحافظات والمحاكم، من الإسكندرية إلى أسوان، ضدّ هذا القرار الذي اعتبروه غير قانوني، ويمسّ الحقّ في التقاضي لعموم المصريين.

أقرّ مجلس الدولة (في يونيو الماضي) حكماً بوقف الدعوة لجمعية عمومية دعت إليها نقابة المحامين لمناقشة فرض الرسوم القضائية الجديدة

يتوازى ذلك مع حبس أحد المحامين احتياطياً، لتمثيله رابطة المستأجرين، بتهمة “الانضمام إلى جماعة إرهابية”، والتحريض على العنف، وإثارة الرأي العام ضدّ مؤسّسات الدولة، ثمّ الإفراج عنه بعد تصديق مجلس النواب نهائياً على قانون تعديل الإيجارات القديمة، كما واجهت نقابة الأطباء مشروع قانون المسئولية الطبّية بالاعتراض على عدد من مواده، وإحداها تسمح بالحبس الاحتياطي لأعضاء النقابة في حال حدوث أخطاء طبّية، وأرسلت موقفها إلى مجلسَي النواب والشيوخ، ومارست ضغوطاً كبيرة أدّت إلى حلول وسط لمواد المشروع. واتّخذت أشكال الضغط من الدولة اتجاهات عدّة، سواء بإصدار هذه التشريعات، أو من خلال حبس مئات من المحامين احتياطياً لقيامهم بنشاطهم المهني والحقوقي، ومنها ما جرى بالسعي إلى منع النقابات من عقد جمعيات عمومية لاتخاذ تفويض منهما لمواجهة هذه القرارات والتشريعات، إذ أدى ذلك إلى إلغاء نقابة الأطباء دعوة الجمعية العمومية (يناير/ كانون الثاني الماضي) لمناقشة الموقف من قانون المسئولية الطبّية، الذي أُقرّ لاحقاً، واستقالة خمسة من أعضاء المجلس احتجاجاً على هذا القرار. وبعدها، قدّم وزير الصحّة والسكّان بلاغاً إلى النائب العام ضدّ الأمين العام المساعد للنقابة العامّة للأطبّاء، اتهمه فيه بنشر أخبار كاذبة تهدف لإثارة الفزع والبلبلة داخل المجتمع الطبّي، على خلفية تصريحاته حول أزمة الاعتداءات على الأطبّاء، والتحذير من موجة هجرة جماعية للأطبّاء بسبب مشروع قانون المسؤولية الطبّية في صيغته الأولى. كما أقرّ مجلس الدولة (في يونيو الماضي) حكماً بوقف الدعوة لجمعية عمومية دعت إليها نقابة المحامين لمناقشة فرض الرسوم القضائية الجديدة، كانت مقرّرةً في الشهر نفسه.

تنزعج أجهزة الدولة المصرية من نشاط متزايد لنقابات بكتلة عضوية كبيرة قد يمكّنها من أدوار سياسية ومهنية

لم تتوقّف هذه الإجراءات عند هذا الحدّ، بل توازت معها تدخّلات في الانتخابات النقابية مادياً ومعنوياً لدعم مرشّحين معيّنين، كما حدث في نقابة المهندسين سابقاً، وانتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحافيين أخيراً. وهو ما حدث بدعم أجهزة ومؤسّسات صحافية قومية للمرشّح المحسوب على الدولة، منها الهيئة الوطنية للصحافة التي شهدت اجتماعات لرؤساء التحرير لدعم هذا المرشّح، وللضغط على كلّ من يدعم منافسه. وامتدّ ذلك إلى التلويح بمشروع قانون يسمح بتعيين الحكومة أربعة مرشّحين في مجلس النقابة، ومدّ فترة النقيب إلى أربع سنوات، وهو ما يمسّ تشكيلة المجلس ويخلّ بالتوازن النقابي، وهناك أفكار أخرى بتعليق القيد في النقابة فترةً، مع فلترة أعضاء النقابة الحاليين، وهو ما يؤدّي إلى تأميم نقابة الصحافيين أيضاً، التي باتت صداعاً لتلك الأجهزة، بسبب عودة “سلّم” النقابة لدوره المهم في التعبير عن الصوت الاحتجاجي في القضايا الداخلية والخارجية، وأسهمت تلك الضغوط في قيام النقابة بإلغاء وقفة احتجاجية في مايو/ أيار بدعوى أن ذلك يمثّل تسييساً للنقابة.

هل هي حملة جديدة تستهدف تلك النقابات بسبب موقفها الرافض علناً بعضَ التشريعات والقرارات الحكومية التي تسعى الإدارة إلى فرضها قسراً من دون نقاش حقيقي من مجلس النواب، باعتباره أصبح مجرّد آلة لإصدار القوانين، في ظلّ هيمنة أحزاب الموالاة؟ وهل يستمرّ هذا الهجوم الحكومي عليها سعياً لترويضها والتقليل من قدرتها على مواجهة أيّ إجراءات رسمية أو نظامية باستخدام عدد من الأدوات القانونية والسياسية، وهو ما سبق أن قام به نظام حسني مبارك في عام 1993، حين أصدر القانون 100 بهدف وقف سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على تلك النقابات، وألغى عدم دستوريته لاحقاً؟ أمّ أن هذا الهجوم محاولة لرسم مساحات محدّدة لدور هذه النقابات، لا تتخطّاها بتنظيم فعّاليات احتجاجية للضغط على أجهزة الدولة لوقف هذه التشريعات الجائرة؟

من الواضح أن لدى جانب كبير من العضوية النقابية استعداد للتراجع في قضايا السياسة التي قد لا تمسّه مباشرةً، لكن ليس على استعداد لذلك فيما يؤثّر على دوره المهني ومحاولة إضعاف هذا الدور بالمقارنة بأجهزة السلطة القضائية والشرطة والنيابة العامّة، أو ما يمّس إمكانية إصدار قرارات بحبسه لمجرّد ممارسته مهنته. وأيّ دور مستقلّ لهذه النقابات يصبّ في توسيع حالة الحراك السياسي والعمل العام في مصر، بما يؤدّي إلى تحسين حالة الحقوق والحريات، وتأكيد علاقة متوازنة بين المجتمع المدني والسلطة التنفيذية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى