رحلة سجين الفصل الحادي عشر: توبة سجان

د. أحمد سامر العُش

في عوالم الظلام التي لا تنتهي، حيث لا يتخلل الضوء الجدران الثقيلة للزنازين، كان السجان سليمان يقف كل يوم على هامش الألم. لا أحد يرى ما يحدث في داخله، ولكنه كان يشعر بتورط خفي في كل فظاعة تُرتكب أمامه. في البداية، كان يعتقد أن مهمته مجرد تنفيذ الأوامر، لا أكثر. لكن شيئاً ما بداخله بدأ يتحطم شيئاً فشيئاً، شيئاً لم يكن يعلمه عن نفسه، ذلك الصراع الذي لا يرى فيه الشخصيات أبطالاً أو ضحايا، بل مجرد أرواحٍ تُمزق في عالمٍ غارق في الظلام.

كان السجان سليمان شاباً طموحاً قاده انتماؤه الأعمى للطائفة والنظام إلى سجن صيدنايا برتبة جلاد، في أول يوم من عمله كان يعتقد أن وظيفته مجرد مهمة روتينية لا تحمل أكثر من مجرد فرض النظام داخل جدران السجن. كانت أصوات المعتقلين لا تعني له شيئاً، ولم يكن يهتم لما يمرون به من ألم. ولكن مع مرور الأيام، بدأت مشاهد التعذيب تأخذ مكاناً في ذاكرته، وبدأ يلاحظ تلك العيون التي تحمل الحزن والضعف، وتلك الأجساد المشوهة التي تنطق بالحكايات الصامتة. كان عليه أن يلتزم الصمت، وأن يظل متفرجاً على مشهد غارق في الظلام، دون أن يشعر بأي شعور إنساني.

ثم جاء يوم حاسم. كانت هناك امرأة مسجونة، عذبت بشكل مروع أمامه؛ عيناها كانتا مليئتين بالدموع، لكنها لم تنطق بأي كلمة، لم تطلب الرحمة، كانت تقف بشموخ وكأنها تتحدى المذلة. وحينما انتهى التعذيب، كانت هي الوحيدة التي نظرت إليه بعينين لا تحملان سوى ذاك السؤال: “كيف تستطيع أن تفعل هذا؟”

في تلك اللحظة، شعر بشيء يشبه الجرح في قلبه، لم يكن مجرد شعور بالندم، بل كان شعوراً عميقاً بالحاجة إلى الفرار من هذا الجحيم الذي كان يشارك فيه. كان يقف بين جدران الزنازين التي شهدت الآلاف من القصص، وكان هو جزءاً من تلك القصص، جزءاً من أولئك الذين جعلوا الجلادين جزءاً من أسطورة القهر.

في قلب كلِّ سجان، ثمة لحظة قد تكشف عن صدى أفعاله المظلمة. كان السجان سليمان في تلك اللحظة، التي لم يستطع نسيانها، يرى صورة للطفل البريء الذي عذبه حتى الموت تحت ضغط أوامر عمياء. لم يكن الطفل مجرد ضحية في هذا السياق، بل كان تجسيداً لبراءة مفقودة في عالمٍ بلا قانون. وكلما حاول السجان أن يهرب من تلك الذكرى، كانت تعود إليه بشكل أقوى، كأنما كانت تغمره مثل ظلال ثقيلة لا مفر منها.

مع مرور الوقت، بدأ سليمان يدرك أن هذا الموت، الذي لم يكن سوى نتيجة لأفعاله، كان يحمل في طياته نذيراً أكثر من كونه مجرد مشهد مروع. فقد أصبح يدرك أن هذا الموت لم يكن سوى رمز لما فقده من نفسه، ما فقده من إنسانية؛ إنه لا يعذب الآخرين فحسب، بل يعذب نفسه أيضاً، داخل جدران لا يمكنه الهروب منها.

ثم، في لحظة من الظلام المتسلسل، بدأت تظهر إشارات أخرى تدل على أن السجان سليمان لا يمكنه الهروب من عواقب أفعاله. فجأة مَرِضَ ابنه علي ، الذي كان في مرحلة الطفولة، جاء كفقدان غير مرئي. المرض الذي أصاب جسده كان يشبه الطيف الذي يلاحق من ارتكب خطيئة، ولكن بطريقة غير مباشرة، كعقوبة رمزية تحيط بكل فرد.

لم يكن السجان سليمان في البداية قادراً على تفسير هذا الألم. كان يرى بصمت كيف كان ابنُه يذبل أمامه، كما كان يراقب بصمت جرائم النظام التي تقتطع من روحه جزءاً وراء جزء، ومع مرور الوقت، أصبح يشعر أن هذا ليس مجرد مرض عضال، بل هو انعكاس لذنبه. كانت روحه المثقلة بالذنب ترى في مرض ابنه تجسيداً لما فعله في الماضي، وعقاباً إلهياً لا يمكن الهروب منه. في هذه اللحظات، بدأت تتشكل في عقله فكرة أن الألم الذي يشعر به لا ينتمي فقط إلى جسد ابنه، بل ينتمي أيضاً إلى قلبه الذي كان غارقاً في الدماء والظلمات.

كانت زوجة سليمان “أم علي” تعيش في صراع داخلي. هي التي كانت تدرك تماماً أن زوجها كان قد خاض هذا الطريق المظلم، إلا أنها لم تستطع أن تواجهه به في البداية. كانت تشعر، رغم حبِّها العميق له، أن الأفعال التي ارتكبها قد سلبت منها البراءة أيضاً. هل يمكن أن تتحمل وزر ذلك؟ كان سؤالاً يلازمها، محاصراً إياها بين حبِّها لزوجها وبين الوعي بأن كلَّ ما حدث كان نتيجة أفعال غير إنسانية. وكلما رأته يعاني من هذا الألم الداخلي، كانت تشعر بعذاب مضاعف؛ ليس فقط لأن ابنها يذبل بين يديها، بل لأنها كانت تشعر بالمسؤولية عن تلك الفظائع، حتى وإن كانت قد تواطأت صامتة، متجاهلة الجحيم الذي كان زوجها جزءاً منه.

لقد أصبح الصراع الداخلي بالنسبة إليها شيئاً يثقل قلبها. هل كان موت طفلهما عقاباً إلهياً لهم جميعاً؟ أم كان هذا مجرد انعكاس لما كانت قد تجاهلته طوال هذه السنين؟ أصبح الزوجان، في النهاية، شخصين محاصرين في دائرة مغلقة من الألم، حيث إن كلَّ واحد منهما يحمل في قلبه شيئاً من الموت، شيئاً من الذنب، شيئاً من اللوم الذي لا يمكن التخلص منه بسهولة.

في نهاية المطاف، لم يكن هناك خلاص إلا من خلال مواجهة الذات. لم يكن السجان قادراً على الهروب من تلك اللحظة. كان يدرك أن التوبة لا تأتي فقط بالكلمات، بل بتغيير روحي حقيقي. سليمان لا يمكنه أن يعيد الأطفال الذين انمحوا من ذاكرة الإنسانية بسبب أفعاله، ولا يمكنه أن يزيل الألم عن قلب زوجته. لكن التوبة بالنسبة له كانت تمثل التحرر من الزمان والمكان، التحرر من ذنبه الداخلي. كانت التوبة رمزاً داخلياً، قسوة مع الذات وعودة للإنسانية.

لكن ما كان مؤلماً أكثر هو أن التوبة لم تكن تعني أن الألم سيختفي، الألم سيظل في مكانه، في صورة جسد ابنه المريض وهو يسلم الروح لبارئها، في الذكريات المؤلمة، وفي قلوبهم جميعاً. لكن، في النهاية، بدأ الزوجان يفهمان أنه لا شيء يمكن أن يُصلح الجراح القديمة إلا مواجهة الحقيقية والتصالح مع الذات. التوبة، في رمزيتها، كانت محورية في تجاوز الألم، على الرغم من أن الذنب سيظل حياً في الذكريات، وفي النفس اللوامة.

ربما لن يتمكن السجان من استعادة براءته، ولا من إلغاء أثر أفعاله، لكن التوبة، بالنسبة إليه، كانت شعاع ضوء في الظلام. توبة عن الذنب الرمزي الذي عاشه طوال حياته، تلك التوبة، رغم مرارتها، كانت بداية لتحرره الداخلي، بدءاً من التعايش مع هذا الصراع الذي كان يعيش فيه. ربما لم يتمكن من إيقاف ما حدث، ولكن في تلك اللحظة، أصبح يعلم أنه يمكنه أن يعيش بسلام داخلي، حتى وإن كانت الذكريات تشد قلبه إلى الماضي.

شعر في لحظة ما أنه لا يمكنه الاستمرار في هذا الطريق. قرر أن يكسر القيود التي وضعها عليه النظام، ومن أبرز هذه القيود انتماؤه الأعمى إلى الطائفة وإلى بيئته التي كانت تجتر أوهام المظلومية التاريخية لتبرر جرائمها. بدأ يحاول تقديم المساعدة للمعتقلين بصوت خافت، يمرر إليهم كلمات الأمل التي بدأ يكتشفها في نفسه. كان يخاطر بحياته في كل لحظة، ولكنه شعر أن هذه هي المرة الأولى التي يفعل فيها شيئاً صحيحاً.

حينما بدأ السجان سليمان في مقاومة النظام، أدرك أن التوبة ليست مجرد كلمات يمكن أن تقال، بل هي أفعال صادقة تتطلب التضحية. لقد بدأ يتحدث مع المعتقلين في كل فرصة، يحاول أن يخفف عنهم آلامهم، حتى وإن كان الثمن هو فقدانه لعمله وربما لحياته.

ولكنه شعر أن رحلته لم تنته بعد. لم يعد يهتم لما سيحدث له، بل أصبح همه الوحيد هو إيقاف هذا الظلم، مهما كان الثمن. في يوم من الأيام، قرر أن يواجه رئيسه المباشر، الرجل الذي كان يشرف على عمليات التعذيب. وقف أمامه، وعيناه تشتعلان بعزيمة لا سابق لها، كان يريد أن يقول له: “لن أكون جزءاً من هذه الجريمة بعد الآن”، لكنه علم أن هذا يعني إنهاء حياته، وقف صامتاً ثم قال له: سيدي ” بدي زور قبر ابني بالضيعة، أرجوك تعطيني أسبوع إجازة!

كانت تلك اللحظة آخر مرة شاهد فيها ذاك العالم المظلم المشبع براحة الموت، غادر مع زوجته إلى ألمانيا، ثم راه أحد الذين عذبهم في الماضي واشتكى عليه إلى القضاء الألماني، فحكم عليه القضاء الألماني بالسجن لمدة عشر سنوات بعد أن شهد ضده الكثيرون، العجيب أن السجن في ألمانيا كان بلسماً لآلام سليمان، فقد أحسَّ لأول مرة أن توبته ربما قبلت، وأن هذا السجن ربما هو كفارة صغيرة عما ارتكبته يداه.

كتب قصته داخل سجون ألمانيا وطلب من المحامي إيصالها إلى القاضي حبيب، الذي علم بقصته من الفرع، فقصة سجنه بعد أن كان قاضيَ التحقيق المنتدب قبل أن يستيقظ ضميره، كانت تثير استغراب القطيع المتهيج للقتل، فانشقاق عضو عن القطيع جريمة لا تغتفر! بعد أن قرأ القاضي حبيب قصة سليمان شعر برغبة شديدة باطلاع خلدون عليها،  لم يعرف ما الذي دفعه لفعل هذا، كما كان سليمان لا يدري لماذا كتب المذكرات أو أراد مشاركتها مع القاضي حبيب، فسليمان لا يفكر بالعودة أو إصدار عفو بحقه؛ لأن سعادته في سجنه في المانيا أفضل من النظر في وجوه ضحاياه في الوطن أو خارجه. ربما ما دفع القاضي حبيب لمشاركة القصة مع خلدون، شعوره أن خلدون قد يساعده على فهم سيكولوجيا الجريمة والعقاب لدى من وقف في جانب النظام، هل هي البيئة؟ هل هو التعصب الأعمى؟ هل هو الظلم؟ أم أنها أوهام المظلومية التاريخية؟ أم هي النفوس البشرية التائهة منذ أيام قابيل بدافع الحسد والعدوان؟ لا شيء واضح في الدوافع والمسببات، لكن القاضي حبيب أحسَّ أن خلدون في مهمة مقدسة للإجابة، عسى أن تشكل إجاباته جزءاً من الحل في مستقبل سوريا.

ربما استيقظ سليمان من سباته وحاول التطهر من جرائمه المفردة وجرائمه داخل القطيع، لكنْ كثيرون من أمثاله لم يفكروا بذلك بعد، بل مازالوا يعيشون في عالمهم الخاص حتى بعد سقوط النظام؟ أهو الجهل؟ أم هو الاستكبار؟ أم هي العقول المحصنة التي تستعصي على التغيير؟ حقيقة وقف خلدون عاجز عن إيجاد الأجوبة التي تدور في فضاء مثقل بالألم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى