أنطولوجيا الأمثال الشعبية في الحرب السورية

فاطمة عبود

لم يكن حضور الأمثال الشعبية في الحرب السورية مجرَّد حضور لغوي يتقاطع مع الخطاب اليومي، بل كان تمثيلاً لانفعالات المجتمع التي تجسِّد في حقيقتها الوعي الجمعي، إذ إنَّ الأمثال منذ القِدَم كانت تعدُّ أداة لتثبيت القيم الاجتماعية، ووسيلة لرسم حدود السلوك المقبول بين الأفراد، بيد أنَّها خلال الحرب السورية تحوَّلت إلى رمزية تترجم انكسار المعنى وإعادة إنتاجه في آنٍ معاً.

إنَّ الأمثال الشعبية في هذا السياق اكتسبت وظيفة تراجيدية، وأحياناً عبثية، بالإضافة إلى وظائفها السابقة؛ التوجيهية والنقدية، لتكشف تناقضات العيش في عالم فقد بوصلته القيمية. فحين يقول أحدهم “إذا بدَّك تعيش، امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة”، فهو لا يعبِّر فقط عن حذرٍ غريزي، بل يعلن استسلاماً مضمراً أمام جدار من الخوف المتجذِّر في النفوس، والذي سعى نظام الأسد البائد إلى ترسيخه في لاوعي السوريين خلال حكمه، حتَّى تحوَّل إلى شعور يوجِّه سلوكهم ويتحكَّم بهم. ويتحوَّل مثل آخر “الساكت عن الحق شيطان أخرس” من دعوة أخلاقية إلى مأزق وجودي، إذ يصطدم المبدأ بالخوف أيضاً، ويُجرَّم الصمت في زمن يصبح فيه النطق مخاطرة بالحياة، فينقلب المثل من حثٍّ على شجاعة الكلام إلى محاكمة للضعف الإنساني أمام جبروت الظلم وسطوته.

لقد أصبحت اللغة في المجتمع السوري أداة للبقاء والمحافظة على الوجود أكثر منها أداة للتواصل، نتيجة تعرُّضه لهزات وجودية خلال سنوات الحرب، وهنا لعبت الأمثال دور الحصن الأخير الذي يلجأ إليه الناس حين يخونهم التعبير؛ لغة، وفعلاً. فحين يقول السوري “كل مين إيدو إلو”، فهو لا يصف مشهداً من الانتهازية المفرطة التي وصل إليها حال الناس فحسب، إنَّما يعرِّي البنية الأخلاقية التي انهارت، من خلال جملة موجزة، تختزن نقداً لاذعاً، وشعوراً  قاسياً بالخذلان. ويكون مثل “العين ما بتقاوم المخرز”، بمنزلة قبول قاسٍ بميزان قوى غير عادل، حين يُقرُّ بالعجز الذي يخفي وراءه غضباً مكتوماً، وهو اعتراف بأنَّ البصيرة وحدها لا تكفي عندما تكون القوة عمياء ووحشية، فالعين قد ترى الحقيقة، لكنَّها لا تملك دائماً القدرة على الدفاع عنها، في حال كانت المواجهة غير متكافئة. وبذلك استخدمت الأمثال الشعبية بوصفها وسيلة للنجاة، بدلاً من المواجهة الصريحة مع السلطة الظالمة، فهي تحمل معنى التمرد، دون أن تُعلن العصيان الواضح.

فحين يقول السوري “كل مين إيدو إلو”، فهو لا يصف مشهداً من الانتهازية المفرطة التي وصل إليها حال الناس فحسب، إنَّما يعرِّي البنية الأخلاقية التي انهارت، من خلال جملة موجزة، تختزن نقداً لاذعاً، وشعوراً  قاسياً بالخذلان.

ومن منظور فلسفي، يمكن النظر إلى الأمثال بوصفها أنماطاً تفسِّر الوجود، وتحاول أن تخلق اتزاناً وجودياً في وسط فوضى القتل والتشريد والضياع التي تعرَّض لها الشعب السوري خلال سنوات الحرب. إنَّها لا تقول الحقيقة كما هي، بل كما ينبغي أن تكون كي تستمر الحياة، لأنَّ المثل الشعبي لا يبحث عن تفسير لما تعرَّض له السوريون، بل يحاول أن يتأقلم مع الراهن، بوساطة التبرير والتصبير. ولهذا فإنَّ انتشار أمثال من قبيل: “اللي بياكل العصي مو متل اللي بيعدها” أو “الحكي ما عليه جمرك” ليس مجرد تعبير عن فروقات التجربة الإنسانية، بل هو إعلان ضمني عن انقسام المجتمع بين من يرى أو يشاهد من بعيد دون أن يكتوي بنار الظلم والقهر، وبين من يذوق ويعاني، إنَّها فلسفة اللامساواة وقد تجلَّت بكلمات بسيطة لا تُناقش، بل تُردَّد، وكأنَّها قوانين صارمة يفرضها الوعي الجمعي ليؤكِّد أنَّ المساواة لا تتحقق بين هذين الطرفين.

ولا يمكن فهم دور الأمثال في الحرب السورية دون التوقُّف عند وظيفتها الساخرة في وجه العبثية، فالمثل يمكنه أن يقول ما لا يمكن قوله صراحة، ويسخر من المأساة دون أن يتنكَّر لوجعها، ويأتي مثل “حاميها حراميها” ليعبِّر عن المفارقة الساخرة، حين تتحوَّل الجهات المفترض بها حماية الناس إلى أدوات قمعٍ وسرقة، كما حدث في التجربة السورية، فيصبح المثل أداة اتهام رمزية تتخفَّى تحت عباءة التلميح الذكي، وبهذا المعنى، أصبح المثل شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية، وفتح نوافذ صغيرة للكرامة الإنسانية وسط حصار الطغيان، ليساعد الناس على التنفيس من خلال رمزية اللغة التي يمكن تحميلها أكثر من معنى.

ومن المعروف أنَّ الحرب تعيد تعريف الزمن، وتقسمه إلى قبل وبعد، تاركة الإنسان معلقاً في فجوةٍ لا يستطيع عبورها ولا الرجوع منها، وفي هذه الهوة الوجودية، يطفو المثل الشعبي كأثرٍ لغوي مقاوم للاندثار، ولهذا فإنَّ بعض الأمثال القديمة قد عادت للظهور، كما في قولنا “الحي أبقى من الميت”، ولكن بحمولات معنوية جديدة، فالمثل يقدِّم فكرة معروفة وهي أنَّ الحياة تستمر رغم المصائب والمآسي التي قد تعتري الإنسان، ولكنَّها اكتسب دلالات إضافية  لتساعد الناس على تقبُّل ما لا يُحتمل تقبلُّه مثل: غياب الأحبة، تبدُّل المواقف، انهيار القيم، ففي الحرب لا مجال للحزن الطويل، ولا وقت للوفاء المستحيل.

وإذا نظرنا إلى الأمثال من زاوية هيدغرية، فإنَّها تجسد الوجود في العالم، لكنه وجود مهدَّد، متوتر، مشروط بالخوف والخسارة. المثل لا يشرح العالم، بل يعيشه. هو تجلٍّ مباشر للقلق الوجودي بلغة مألوفة، يحوِّل الرعب إلى جملة قابلة للتداول، ليخفف من ثقل التجربة. فالمثل لا يسأل لماذا وقعت الحرب، بل ماذا نفعل الآن وقد وقعت؟ إنَّه فلسفة ما بعد السقوط، فلسفة الركام. ويمكن أن نرى هذا بوضوح في مثلٍ شعبيٍّ متداول: “الضربة اللي ما تقتلك تقويك”. فهذا القول لا يعرض تفسيراً للكارثة، بل يمنحها وظيفة وجودية: وهي التمرُّن على التحمل، والصمود المؤقت، والقدرة على البقاء أطول فترة ممكنة وسط اللاجدوى.

إنَّ الأمثال الشعبية، في سياق الحرب السورية، تحوَّلت إلى أدوات تأويلية تنخرط في إنتاج المعنى داخل فضاء مشبع بالفقد والاضطراب، فقد تمَّ استخدامها لترويض الواقع، وإعادة تشكيله بما يسمح بالحد الأدنى من الاستمرار. لقد مثَّلت الأمثال آلية دفاع وجودية، تحاول عبر التكرار والترميز أن تمنح المشهد السوري المنكوب بعدًا قابلاً للفهم، أو على الأقل للاحتمال. وهكذا، تصبح الأمثال بنية لغوية –ثقافية تسعى لإعادة ترميم الذات المفككَّة، من خلال توفير سرديات صغيرة للبقاء، وعبر رموز مألوفة يمكن استيعابها وتكرارها. إنَّها شكل من الأنطولوجيا الشعبية التي تعيد للغة وظيفتها الأصلية بوصفها أداة للتوصيل، وأفقاً للتأقلم الوجودي مع الواقع.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى