بعد بضعة أيام من توقيع سوريا وإيران على اتفاق عسكري جديد يستهدف تعزيز الدفاعات الجوية السورية ومنع غارات جوية جديدة على أهداف إيرانية وسورية، هزت التفجيرات المنسوبة لإسرائيل سماء دمشق. هذه الحرب غير المعلنة بين إيران وإسرائيل التي تتواصل منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا لا تقلق الكرملين بصفتها هذه، على الأقل طالما تتخذ الأطراف جانب الحذر من المس بكرامة الروس وبمصالحهم في سوريا. ولكن المنافسة على النفوذ وتحديد مستقبل سوريا بين روسيا وإيران تتحول من مصدر قلق إلى مشكلة.
لا تبعث الغارات المنسوبة لإسرائيل في سوريا على راحة كبيرة لموسكو، ولكنها تعفي نفسها للقول الدائم بأن “هذه الغارات لا تساهم في استقرار الوضع في المنطقة”. أما الاتفاق العسكري الجديد بين إيران وسوريا، بالمقابل، فيثير بعض الأعصاب في العاصمة الروسية، كون الحديث يدور عن تطور قابل للانفجار على نحو خاص قد يزيد عدم الاستقرار في سوريا بمستوى متطرف، في حالة تزويد إيران الجيش السوري بمنظومات الدفاع الجوي، وتحاول هذه الهجوم على أهداف معادية في سماء سوريا.
كما يأتي التقارب بين سوريا وإيران ليؤشر أيضاً أمام روسيا أن دمشق تفضل اعتمادها على الحلفاء من طهران من الاعتماد على الروس الذين لم يتوقفوا عن تذكير بشار الأسد من هو رب البيت في دمشق، في السنوات الأخيرة. وكان هذا واضحاً على نحو خاص في أثناء زيارة الرئيس الروسي الأخيرة إلى سوريا في بداية السنة، عندما التقى بوتين الأسد في القاعدة العسكرية الروسية وليس في قصر الرئاسة. وتروي الشائعة السائدة في سوريا عن أن روسيا لا تسمح عملياً باستخدام منظومات الدفاع المتطورة التي زودتها لدمشق في أثناء الغارات الجوية المتكررة منعاً لمزيد من التورطات.
كما أن روسيا وإيران تختلفان جداً حول رؤية مستقبل سوريا. ويدور الحديث عن تقاسم المقدرات الطبيعية السورية، وهنا يصمم كل طرف على أن يستعيد استثماره في الحرب الأهلية السورية، وكذا في إعادة تصميم الدولة التي لم تعد تشبه سوريا في شيء، قبل بدء الحرب في آذار 2011. لروسيا خطط بعيدة المدى في سوريا، فهي تستثمر في بنى تحتية ستخدمها، كتجديد وتطوير الميناء في طرطوس، وقواعد عسكرية ومنشآت عسكرية أخرى، بينما تستثمر إيران في البنى التحتية السورية المدنية، بدءاً بالفنادق وانتهاء بشركات الاتصال. روسيا تحث الأسد على تحقيق الإصلاحات الحيوية، والتخلص من المحيط الفاسد (دفع أرباب المال إلى “اقتسام” التمويل، وهي المسيرة التي بدأ تنفيذها في الأشهر الأخيرة)، وإعادة بناء الجيش على النمط الروسي بحيث يكون الجيش السوري الحليف الأكثر ولاء لموسكو في سوريا ويحرص على أن يواصل الرئيس أيضاً السير في التعلم. رغبت موسكو في رؤية دولة مرعية روسية على شواطئ البحر المتوسط، والتموضع فيها جيداً تبث لقوتها في حوض البحر المتوسط من هناك، ونحو أوروبا أيضاً. كما أن روسيا كانت ترغب في رؤية سوريا دولة علمانية تنجح في احتواء جماعات أقلية كالمسيحيين والأكراد، بينما ترى إيران في سوريا جزءاً لا يتجزأ من محور المقاومة الشيعي، وتعمل منذ سنوات عديدة على صعود نجم الشيعة في الدولة.
من ناحية إيران، تعدّ سوريا الدولة الأساسية والحليف الوحيد في الشرق الأوسط العربي المتعلق بطهران بشكل كبير، الأمر الذي لا يمكن قوله عن العراق أو على لبنان. فهذا هو السند العربي الوحيد لنظام طهران في كل ما يتعلق بنشر الهيمنة الإيرانية في المنطقة، قريب جداً من الحدود الإسرائيلية. لقد أمل الإيرانيون أن يتمكنوا بمعونة سوريا من تغيير المعادلة بالنسبة للتصدي للغرب، حيث يمكنهم مقابل بعض التنازلات في المجال النووي أن يحصلوا على يد حرة في سوريا. إن تدخلهم في سوريا اليوم كبير جداً ويفوق التدخل الروسي. ويجد هذا الأمر تعبيره في الاستثمارات في البنى التحتية المدنية، والنشاط الإيراني العسكري على الأرض السورية، والتجارة المتفرعة (التصدير الإيراني إلى سوريا في ارتفاع كل الوقت) وبوجود المراكز الثقافية التي تعرض دورات لتعلم اللغة الفارسية (بالتوازي مع المراكز الثقافية الروسية التي تعرض دورات كهذه بالروسية). إلى جانب ذلك، واضح للجميع أن إيران لم تكن لتنقذ نظام الأسد وحدها. فالتدخل العسكري الروسي في صالح الأسد والذي بدأ رسمياً في أيلول 2015 أنقذ جلدة الأسد وسمح له بإعادة سيطرته على معظم الأراضي السورية. كما أن الإيرانيين متعلقون برحمة روسيا في كل ما يتعلق بإقرار القرارات ضد إيران في مجلس الأمن في الأمم المتحدة، حيث الفيتو لروسيا فقط. ومن جهة أخرى، كانت روسيا تحتاج إلى الحضور الإيراني في أثناء الحرب (التي لم تنته بعد) كون إيران -بخلاف روسيا- بعثت بآلاف المتطوعين والمقاتلين الشيعة من لبنان وحتى أفغانستان إلى ميدان القتال في سوريا ممن شكلوا لحم مدافع.
لم يكن التحالف بين الدولتين كامل الأوصاف في ضوء التعارضات البنيوية بينهما وتضارب المصالح في مسائل عديدة، ولكن جهدهما المشترك في سوريا نجح في إعطاء الثمار.
السؤال هو: ماذا سيحصل مع انتهاء المعارك حين سترغب كل دولة في استخلاص الحد الأقصى من المنفعة وزيادة نفوذها؟ ليس للدولتين الوسائل اللازمة لإعادة بناء سوريا، وكلتاهما غير قادرتين على ربط الغرب بعملية إعادة البناء طالما لا يوجد حوار سياسي ومدني ذي مغزى. كلتاهما لا يمكنهما التخلي عن سوريا التي أصبحت العمود الفقري العام في سياستيهما الخارجية. ففي الفترة القريبة المقبلة سيتصاعد التوتر بين الدولتين، ولكن لم تحدد لحظة الانكسار بعد، إذ تحتاج الدولتان في هذه المرحلة إلى التعاون بينهما من أجل استقرار الوضع في سوريا ومنع الانهيار الاقتصادي المطلق.
قد لا تكون روسيا قادرة على النشاط الإيراني المتفرع عن الاتفاق العسكري الجديد الموقع، ولكن بخلاف العديد من المنشورات منذ عدة سنوات في هذا الشأن، فإنها لن تعمل على دحر طهران من سوريا، وعملياُ غير قادرة على ذلك حتى لو أرادت. وإيران هي الأخرى لن تنجح في قلب الأمور رأساً على عقب في سوريا والتخلص من نفوذ الدب الروسي، حتى لو وقعت على عشر اتفاقات عسكرية أخرى مع بشار الأسد. سيتعين على الصديقين – العدوين، في هذه المرحلة، أن يشدا على الأسنان ويواصلا العمل معاً في سوريا في كل منافسة متصاعدة.
المصدر: معهد السياسة والاستراتيجية