يُحكي أن قرية في وسط سوريا كان أهلها يشكون تعسّف الخوري، الذي كان في تلك الحقبة بمثابة سلطة دينية ومدنية عليهم. بعد محاولات لم تُجْدِ نفعاً معه، ثم مداولات سرية فيما بينهم، وجد الأهالي الحلّ بالذهاب إلى مدينة حماة، وإشهار إسلامهم أمام المفتي، وهكذا لا يبقى للخوري سلطة عليهم. ذهب الأهالي معاً، ونفّذوا الخطة، ثم عادوا مبتهجين إلى الضيعة، ولما وصلوا إلى مشارفها بوغتوا بالخوري يصعد إلى سطح الكنيسة ويرفع الآذان.
سيكون من السهل تشبيه الكثير من حالات “إعادة تموضع” المواقف في سوريا بالحكاية القديمة، وتشبيهها خصوصاً بذلك الخوري الذي سارع للعمل بقاعدة: سيدكم في المسيحية سيدكم في الإسلام. وقد صار دارجاً لدى السوريين تعبير “التكويع” للدلالة على الذين أعادوا تموضعهم بعد إسقاط الأسد، وقد يكون بينهم حقاً مَن يشبه جواسيس الخوري الذين ذهبوا مع الأهالي لإشهار إسلامهم. وسرعان ما انتقل التعبير ليصير متداولاً في منابر عربية ومحطات تلفزيونية كبرى، بل ساهمت الأخيرة في إبراز الظاهرة من خلال استضافة شخصيات معروفة، فنانين على سبيل المثال، ليعلن الضيوف السوريون على الملأ موقفهم الجديد، مع تبريرات لا ترقى بمعظمها إلى حجم الزلزال السوري.
لكن الإمعان في التندر على هذه الظاهرة أعاق الانتباه إلى طبيعة المرحلة التي يُستهل بها التغيير، وأعاق فهماً مشتركاً، ومنصفاً، على غرار الفرحة المشتركة بإسقاط الأسد. فمن الجيد الانتباه إلى الفرحة المشتركة، الصادقة، وتحري دوافعها، لأن الفهم مفيد في فهم الماضي والتفكير فيما يُستحسن أن يكون عليه المستقبل. لقد سقط الأسد بعدما فقد شعبيته في كافة أرجاء سوريا، بلا استثناء، وصار التوق إلى الخلاص يجمع السوريين، باستثناء المتورطين مباشرة في الدماء.
إلا أن مصدراً للفرح الأوسع يجدر التركيز عليه، هو أن إسقاط الأسد، (كما حدث فعلاً)، سيناريو يستحق الفرح بالنسبة لجميع الذين كانوا متخوّفين من سيناريو دموي يتحصن بموجبه في دمشق، ما يعرّضها لدمار وأنهار من الدم، ثم يؤدي إلى مجازر وعمليات انتقام واسعة في الساحل. مبعث الفرح هذا جدير بألا يُنسى، إذا انعقدت النية على احترام وتكريس ما هو مشترك وجامع. ولا بأس بالتذكير بأن الخوف أسكت معظم السوريين عندما انقلب البعث على ديموقراطيتهم الناشئة، ثم عندما انقلب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين، ثم عندما اعتقل بدءاً من النصف الثاني في السبعينات حتى النصف الثاني من الثمانيات خيرة شباب سوريا بكافة توجهاتهم، مروراً بارتكابه مجزرة كبرى في حماة… إلخ. وفي كل الأحوال، هذه ليست سمةً سورية، وهناك فلاسفة كبار كتبوا عن الخوف بوصفه محرّكاً أساسياً للبشر.
وسواء رآها البعض ثورة، أو حرباً أهلية، فإن ما حدث في العالم كله، وسارع الواقع السوري إلى الشروع فيه، هو عملية المصالحة. لقد كان قدر أفضل الثورات عبر التاريخ أن تضطر إلى مصالحة تتراجع فيها خطوات إلى الوراء، ويتقدّم خصومها في الأمس خطوات إلى الأمام. هذه التسوية متضمَّنة أصلاً في القول أن الثورة لأبنائها مثلما هي لأبناء خصومها، وإلا انقلبت إلى مشروع ثأري إبادي. ولا شك في أن ضغط التسويات ومرارتها يزيد إلحاحهما مع الحروب الأهلية، وفي كل الأحوال؛ ليست المصالحة والتسامح شيمتان محض سوريتين؛ هذا هو حال بلدان عديدة سبقتنا من دون ادعاءات أو تفاخر.
ثمة حاجة موضوعية هي التي تحكم، لا الاعتبارات الأخلاقية “الطوعية”، من ذلك أن سوريا ستكون بحاجة إلى جميع أبنائها من أجل إعادة الإعمار. وتعبير “جميع أبنائها” بمثابة تعويض عمّا نعرفه، لجهة مقتل حوالى مليون شاب ورجل في سن العمل، وللتعويض أيضاً عن نزيف قوة العمل من المهجَّرين الذين لن يعودوا كلهم، وكذلك عن عدد ضخم جداً غير محدد حتى الآن من الذين أصيبوا بإعاقات تُخرجهم من سوق العمل كلياً أو جزئياً. يتفرع عن هذا مثلاً أن المطالبة بحقوق النساء، فوق أحقيتها الدائمة، لن تكون ترفاً في زمن استثنائي؛ هي مدخل ضروري لمشاركتهن الملحّة في إعادة الإعمار. القول أن المرأة نصف المجتمع هو حالياً من الماضي، إذ صارت النسبة العددية للنساء أعلى من المعتاد.
مع التأكيد على مبدأ محاسبة المتورّطين في الدم السوري والمحرِّضين على الإبادة، يحضر أيضاً في السياق الواقعي أن تُترك المهمة لجهة مخوَّلة بذلك، على أسس واضحة لا تهدر طاقات البلد بين سجناء وسجّانين. وضمن السياق نفسه، يجدر بالذين يعتبرون أنفسهم جمهور الثورة عدم الانزلاق وهدر طاقاتهم في ملاحقة ظاهرة ليست استثنائية، ولا تقتصر على سوريا. فالتوقف عند ظاهرة “التكويع” مفهومة ومبرَّرة ما لم تتفاقم، وتولّد إصراراً على انقسام يُفترض أنه انتهى بسقوط الأسد.
لن يكون جيداً على الإطلاق تمثّل ظاهرة انتهى زمنها، هي التي كان يُشار إليها باسم “أبو حيدر جوية”. شخصية “أبو حيدر” هذا مستلهمة من صف ضابط يُفترض أنه يتبع المخابرات الجوية، ويمكن أن تُنسب إليه كافة الموبقات المعروفة عن مخابرات الأسد، فضلاً عن الركاكة والابتذال اللذين يجعلان منه محط سخرية. سيكون من “التكويع” أن يتبرع ضحايا أبي حيدر بالحلول مكانه، وأن يقيم الواحد منهم حاجزاً مخابراتياً افتراضياً لتفتيش المارة، ولو بزعم حماية السلطة الجديدة من فلول القديمة.
ومن حسن الحظ أن سلطة كسلطة الأسد تنهار دفعة واحدة، ولا تخلّف وراءها ما يُبنى عليه كـ”ثورة مضادة”، وإن بقي الخوف من الأخيرة ماثلاً من قوى ترفع علم الثورة. على صعيد متصل؛ سيكون من المؤسف ألا يُلقى سريعاً وصف “المنحبكجي” في سلة المهملات، وهو وصف كان شائعاً لوصم محبي الأسد، خصوصاً مع انطلاق الثورة، ويُخشى بشدة أن “تكويع” البعض من جمهورها سيتكفّل بجعله حاضراً.
بالعودة إلى أمثولة الضيعة، من المؤكد أن العبرة ليست في تحوّل أهلها إلى الإسلام، بل في الخوري الذي “أخرجهم عن دينهم”، والأخير تعبير سوري موروث أيضاً، يشير إلى الضغط الذي أوصلهم إلى حدّ لم يعد يُطاق، وأن ضغطاً مشابهاً قد يخرجهم عن دينهم مرات ومرات. هذه عبرة ينبغي ألا يحجبها الانتباه الذي يذهب معظمه إلى مكر الخوري وتكويعه، وربما مع الإعجاب الخفي أو المعلن به.
المصدر: المدن