إن إحاطة غير بيدرسن المبعوث الخاص للأمم المتحدة الى سورية التي قدمها الى مجلس الأمن الخميس الماضي تثير المواجع وتدعونا لرثاء دور المنظمة الدولية في سورية، إن لم نقل ادانتها بكل قوة، كما تدعونا كثوار ومعارضين سوريين موجوعين بنكبة شعبنا تطالبنا بعمل شيء جدي غير الاستماع الى المواعظ المملة التي يقدمها الدبلوماسي القادم الينا من أحد الكواكب البعيدة، على مرأى ومسمع عالم فقد إحساسه الانساني.
يرى بيدرسن أن جائحة الكورونا سبب كاف ومقنع لتجميد نشاطه ودوره ومهمته منذ نهاية العام الفائت وحتى اليوم، بما في ذلك عمل اللجنة الدستورية التي يراها مهمته الرئيسية. ورغم تحفظاتنا الكثيرة على هذه “اللجنة” التي أثبتت أن مهمتها مضغ الكلام على طريقة اللبان، واجترار التصريحات الباردة والتلهي بأي شي لملء الفراغ وإخفاء العطالة المقنَّعة لمبعوثي المنظمة الاممية منذ فشل مؤتمر جنيف عام 2014، والعجز عن تحقيق أي شيء، بما في ذلك (السلال الأربع) التي اخترعها السلف غير الصالح دي مستورا، قبل خمسة أعوام، وتبين أنها مجرد سلال مخرمة بالثقوب.
يبشرنا بيدرسن في إحاطته الجديدة أنه (حصل على موافقة رئيسي الطرفين في محادثات اللجنة الدستورية على الاجتماع مجددا في جنيف يوم 24 آب / اغسطس القادم) إذا سمحت الكورونا لهم بالسفر والاجتماع – هكذا قال والله -!
يا لهذا الانجاز الكبير، ويا لها من بشرى سارة لملايين المنكوبين السوريين يزفها مبعوث السكرتير العام لهم بمناسبة عيد الأضحى المبارك!
إذن سنعود لمتابعة المسلسل المسلي للجنة الدستورية برعاية بيدرسن وبطولة كل من بشار الجعفري وهادي البحرة. ولا نعلم إن كان هذا الديبلوماسي الهادئ يعلم أو يجهل أن شعبنا يرفض اللجنة جملة وتفصيلا، ولا يرى فيها غير مجزرة للوقت والكلام الأجوف.
لم ينس بيدرسن أن ينعي للعالم مجددا فشل الجهود الأممية في ملف المعتقلين، وقال إن قضية المعتقلين (مسألة إنسانية، بل هي في الواقع، مسألة حقوق إنسان، تتطلب جهودا مستدامة وهادفة، تمشيا مع القانون الدولي) وهو قول يبرر استمرار اعتقالهم، ويعني أنه يقول لنا لا تنتظروا شيئا في القريب العاجل. وقال أيضا (ما يزال العديد من السوريين محتجزين ومختطفين ومفقودين، وما يزال العديد من العائلات يسعى بشدة للحصول على معلومات حول مصير أحبائهم). لاحظوا كلمة العديد التي توحي أن المعتقلين في سورية بضع مئات فقط! ولذلك لم ينس مناشدة بشار الأسد وبقية الأطراف الافراج عن بعضهم على الأقل، بعد أن وزع المسؤولية عن مأساتهم على عاتق كل الأطراف بالتساوي، وكأن عدد المعتقلين عند بعض المنظمات المسلحة لا يختلف عنهم عند النظام الارهابي. وأضاف بلغة تشبه لغة التسول والتوسل: (دعونا نجعل عيد الأضحى المبارك مناسبة لإدخال الفرح الى قلوب مزيد من العائلات السورية).
كما لم ينس أن يعلن بسعادة أن مستوى العنف والقتال تراجع في الشهر الماضي ولعله أراد أن يشكر بصورة غير مباشرة قوات الأسد وروسيا وإيران لأنهم خففوا مستوى حربهم على ضحاياهم.
هذه الاحاطة تكرر تقارير المبعوث الخاص منذ أن اختير لهذه المهمة قبل عشرين شهرا، والتي تتسم بالبلادة والنمطية وتفتقر للإحساس والعواطف التي تدل على أن كاتبها منفعل بالجريمة البشعة المروعة، وتشبه تقارير الطبيب الشرعي حين يصف ما يراه على جثة القتيل، ويحدد سبب الموت، بكل حيادية، وبدون احساس بالجريمة المتواصلة منذ تسع سنوات ونيف. وهذا السلوك في الواقع ليس سلوك بيدرسن، بل ولا أسلافه الثلاثة (كوفي أنان والاخضر الابراهيمي، وستيفان دي مستورا) وإنما هو سلوك الأمم المتحدة ذاتها في تعاطيها مع الجريمة المستمرة في سورية. سلوك لم يؤد إلا للفشل الذريع، وجعل المنظمة التي يفترض بها أن تكون فوق الدول والصراعات وحارسة للقانون الدولي والسلام العالمي طرفا متورطا في الجريمة بأشكال وطرق مختلفة تستوجب الإدانة الفعلية. وبإمكان المحللين تسجيل عشرات الملاحظات الموضوعية على دور الأمم المتحدة السلبي في سورية، والذي انحرف باستمرار نحو الجانب الروسي، بل والايراني، وصولا لنظام الزمرة الارهابية في دمشق، والذي لم يبق نوع من الاجرام والارهاب إلا واستعمله ضد شعبه الذي أسقط شرعيته منذ 2011، وتعشم بالأمم المتحدة والمجتمع الدولي والأمم الديمقراطية والمتحضرة توفير الحماية التي يقرها ميثاق المنظمة له. ولكن الأمم المتحدة ظلت حريصة على الوقوف بين النظام وممثلي الشعب بصورة حيادية ومتساوية، وتورط كثيرون من موظفيها وبعثاتها في خيانة الضحية، لصالح المجرمين، والتستر على جرائمهم.
ولا شك أن أخطر ما قام به مبعوث الأمم المتحدة دي ميستورا هو الجنوح الى خط موسكو في مقاربتها المنحازة للنظام في إدارة ملف المفاوضات عبر مؤتمر جنيف، واستنادا الى وثيقة جنيف1، ثم قرارات مجلس الأمن، ولا سيما قرار 2254. ثم منحه الشرعية لدور ايران الإجرامي في سورية، وجعل طهران لاعبا شرعيا في معالجة القضية، ثم اختراعه لفكرة السلال الاربع، وإدخاله ممثلي المجتمع المدني كطرف ثالث بهدف اضعاف حصة المعارضة بمقابل النظام، وتحويل المفاوضات الى مسار بحثي وأكاديمي طويل المدى على أساس رؤية مغلوطة ومضللة، ترى أن الأزمة السورية اجتماعية ودستورية، قبل أن تكون أزمة صراع بين نظام شمولي توتاليتاري بلا مشروعية، وثورة شعب مهان ومعذب يعاني من فقدان الحرية، وختتم دي مستورا مهمته بمباركته مسار سوتشي الذي أسسه الروس بديلا عن مسار جنيف .
ورغم كل هذه الخطايا الفاضحة وتتويجا لها أنهى دي ميستورا مهمته برفع الراية البيضاء والاستسلام أمام روسيا وإيران والأسد، وانسحب تاركا سجلا حافلا بالمواقف المخجلة التي قام بها رجال الأمم المتحدة في سورية.
وجاء اختيار سكرتير عام الامم المتحدة مبعوثه الحالي بيدرسن مطلع العام السابق بمستوى من الكفاءة أدنى وأقل وأسوأ من مستوى سلفه، مما زاد في تخفيض مستوى الدور الأممي في حل الأزمة وإضعافه، بدل أن يقوم السكرتير العام برفع المستوى، وتجاوز تركة دي ميستورا، وسنواته الخمس العجاف، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن أخطاء الأمم المتحدة ليست أخطاء بل خطايا متعمدة تعكس خطا سياسيا. وما يعزز هذا الاستنتاج الآن أن المبعوث الحالي تابع مسيرة سلفه بأمانة، إذ لم يطرح استراتيجية دبلوماسية جديدة، ولم يتخذ موقفا واحدا يدل على شجاعة ديبلوماسية وأخلاقية في مقاربته للقضية السورية خلال إحاطته الشهرية، ويصر على استئناف المسار التفاوضي الذي صممه دي ميستورا مع لافروف، والذي يجعل أساس وهدف المفاوضات وسقفها وأقصى آمالها ومآلاتها الاتفاق على تعديل الدستور الحالي في سورية، ومناشدة سفاح دمشق إطلاق بضعة من المعتقلين بصورة إفرادية وبمبادرة انسانية (إحسانا ومنَّة وكرم أخلاق)!!
إنها استراتيجية ديبلوماسية معدة بإحكام لتصفية القضية السورية، وافراغها من مضامينها السياسية، ولذلك لا بد من رد فعال وثوري لهيئة التفاوض، إن كانت أمينة فعلا في تمثيل شعبها، حتى ولو وصل الى المقاطعة والانسحاب من ديبلوماسية المهزلة ومجاراة المحور المعادي في ألاعيبه.
913 4 دقائق