على الرغم من أنّ تجربتي الإسلام السياسي في كلّ من تونس والمغرب تجاوزتا ما حصل لأقرانهما، من حركات إسلامية أخرى، وتمكّنتا من الاندماج في النظام السياسي، وعبور بعض حقول الألغام من دون أن تنفجر فيهما، إلا أنّ ذلك ليس إلا مرحلة من المراحل، ولا تزال هنالك مسافات طويلة أمامهما لتقطع. لا يقف مصير الإسلاميين على ما يتخذونه من خيارات استراتيجية فقط، فهنالك عوامل أخرى قد تعادل ذلك، أو تفوقه أهمية، منها السياسات الدولية والإقليمية. فالتعامل الدولي، مثلاً، مع الحالة الإسلامية في المغرب مختلف تماماً عنه مع التي في المشرق، حيث إسرائيل والنفط والمصالح المركّبة والاعتبارات الأمنية الدولية والإقليمية، والخلافات الطائفية، ودور الجيش الكبير في الحياة السياسية.
مع ذلك، يبدو حزبا النهضة التونسي والعدالة والتنمية المغربي أكثر انفتاحاً على أفكار المراجعات والتغيير والتحديث والتكيّف الأيديولوجي من الإخوان المسلمين في المشرق العربي، مثلما هي الحال في مصر والأردن، إذ لا يزال هنالك تعلّق ملحوظ بشعارات جماعة الإخوان وبإرث الاسم، بل حتى في البنية التنظيمية والبناء الأيديولوجي، ما أدّى إلى ظاهرة “بديلة” في المشرق العربي، تتمثّل بالانشقاقات الداخلية الكبرى، وخروج القيادات المتتالي، بخاصة المعتدلة، وإمساك التيارات المتصلّبة بمقاليد الأمور، في مقابل المراجعات التي حفظت الكيانات التنظيمية للأحزاب الإسلامية في المغرب وتونس.
وإذا كانت لحظة الربيع العربي الأولى بمثابة اختبار كبير للحركات الإسلامية التي انتقلت من مربع المعارضة في دولٍ كثيرة إلى مربع السلطة والقوة، كما هو الحال في مصر وتونس والمغرب، فإنّ لحظة الربيع الثاني شكّلت اختباراً ثانياً لمثيلاتها من حركات في كل من السودان والجزائر ولبنان والعراق. ولكن، كما يلاحظ الباحثون والخبراء الذين أعدّوا مشروع “حركات الإسلام السياسي في موجة الربيع العربي الثاني” (مركز الشرق للدراسات الاستراتيجية)، إلّا أنّ حضور العامل الطائفي ودور الجيش، منذ البداية، في هذه التجارب كان واضحاً وحاسماً في مصيرها وفي سلوك الإسلاميين، ما حجّم دورهم وحضورهم وتأثيرهم.
بمقارنة سلوك الإسلاميين وخطابهم بين لحظتي الربيع العربي الأول والثاني، نجد تباينات واضحة، وفروقاً شديدة، ففي الحالة السودانية انقسم الإسلاميون بين مؤيد لحكم عمر البشير ومعارض له، وفي الحالة الجزائرية اصطفت جبهة السلم (ذات الخلفية الإخوانية) مع النظام، بينما كان العامل الطائفي هو الحاسم في كل من العراق ولبنان. وكما يلاحظ الباحثون في إحدى الخلاصات الرئيسة في الكتاب؛ إذا كانت حركات إسلامية قد تعرّضت للإقصاء بعد مرحلة قصيرة من الموجة الأولى من الربيع العربي، فإنّ الموجة الثانية عمّقت أزمات الإسلاميين الداخلية وجذّرتها.
في محاولة لمقاربة الحركات الإسلامية بعد الربيع العربي والتحولات العديدة التي تمرّ بها، عقد مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، مع مؤسسة فريدريش إيبرت في عمّان مؤتمراً دولياً (قبل قرابة عامين)، صدرت أعماله وأبحاثه لاحقاً في كتاب بعنوان “ما بعد الإسلام السياسي: مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية”. ومفهوم ما بعد الإسلام السياسي جدلي وخلافي، وكان سبباً في إثارة الجدل بشأن أهداف المؤتمر وغاياته، على الرغم من أنّ الهدف كان القول إنّ هنالك مرحلة جديدة تمرّ بها تجارب إسلامية عديدة، أو التي كانت إسلامية، تتمثّل بالخروج من العباءة التقليدية الأيديولوجية والتنظيمية للإسلام السياسي، والاقتراب أكثر من نموذج العمل الحزبي السياسي الاحترافي، القائم على مفهوم مركزي، وهو الفصل بين العمل الدعوي والاجتماعي والعمل السياسي، الأمر الذي يقترب أكثر منه الإسلاميون المغاربة والتونسيون، الذين أعلنوا الفصل بصورة قطعية وكاملة.
استمرّ الإخوان المسلمون في الأردن ومصر في حالة المراوحة بين الأفكار البراغماتية والتقليدية، وبقي التيار التقليدي الأيديولوجي يمانع عملية التحول الكاملة أسوة بالحالات المغربية والجزائرية، ما أدّى، في الأردن، إلى انبثاق ما أطلقنا عليه حركات أو أحزاب ما بعد الإسلام السياسي، مثل حزب زمزم وحزب الشراكة والإنقاذ، وهي أحزاب أعلنت، بصورة قطعية، أنّها وطنية سياسية، وأنّها تؤسس فكرها على أسس المواطنة والهوية الوطنية والعمل السياسي التوافقي، وضمّت، بالإضافة إلى القيادات المنشقة عن الإخوان المسلمين، قيادات مستقلة ذات خلفية أيديولوجية أو سياسية مغايرة، وهي حالة متقدّمة أيديولوجياً في العالم العربي، لكنّها تعاني من ضعف القاعدة الشعبية، مقارنة بالتيار الإسلامي، سواء في نسخته المشرقية أو المغربية.
خلاصة القول أنّ البيئة السياسية والمؤسسية الداخلية والإقليمية التي صاغت جزءاً كبيراً من الاعتبارات الأيديولوجية والتنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين، المدرسة التي انبثقت منها أغلب حركات الإسلام السياسي التي تشارك في العملية السياسية، لم تعد (تلك البيئة) نفسها، تغيرت كثيراً، والمجتمعات والأفكار والثقافات والتحديات جميعاً تغيّرت. ومنذ عقود، وبصورة خاصة منذ مرحلة الربيع العربي، بدا المشهد بالكلية مغايراً لما كان في العقود التي تأسست بها الجماعة، وأثرت بطبيعة عملها وأفكارها وتصوراتها.
ذلك يدفع إلى مراجعات جوهرية كبيرة عميقة داخل الحركات الإسلامية، لا تمسّ فقط الجوانب الشكلية أو بعض المفاهيم، بل أسس الأيديولوجيا وتحدّي الفرضيات التي قامت عليها. ففكر حسن البنا نفسه كان استجابةً لظروف ومتغيرات تاريخية وسياسية معروفة، والبنية التنظيمية التي أقامتها كانت ثمرة رؤيته الخاصة وتجربته الذاتية، بينما العالم اليوم يتغيّر في كل شيء بشأن هذه الجماعات.
المصدر: العربي الجديد