أكرر فأقول إنه ليس حنينًا مرضيًا إلى ماضٍ انطوت أحداثه ولم تنطو صفحاته لأنها لا تزال تنعكس على حاضرنا، ولا تزال تنتظر استخلاص الدروس منها، لتعظيم ما كان إيجابيًا فيها ومناسبًا للبناء عليه، ولتجنب ما كان سلبيًا واليقظة من إنتاجه مرة بعد مرة.
اليوم أختم ما اتصل بالمقال الأول حول ثورة يوليو 1952، وهو الرسائل بين الرئيسين جمال عبد الناصر وجون كنيدي، اللذين اعتبر الديالوج بينهما مثالًا للتعامل بين قوة عظمى سياسية واقتصادية وعسكرية وعلمية وتكنولوجية وبين قوة نامية صاعدة تحاول أن تتم استقلالها الوطني وتنجز نهضتها الشاملة، مستندة من بين ما تستند إليه، إلى أنها قوة عظمى حضاريًا وتاريخيًا وثقافيًا، بحكم ما كان عبر عشرات القرون.
لقد بلغ عدد الرسائل بين الرئيسين 24 رسالة، وفي ظني أنها تصلح مادة لرسالة للماجستير أو الدكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية، وربما تصلح أيضًا مادة لرسالة في الأدب الدبلوماسي، إن جاز الاصطلاح، ولو كان الأمر بيدي لنشرتها كاملة مع شرح تفصيلي يتناول الظروف التي أحاطت بها، ويتناول لغة الخطاب وبنيته ومضامينه على الناحيتين الأمريكية والمصرية.
لقد توقفت أمام بعض الرسائل، منها رسالة موجهة من كنيدي إلى عبد الناصر؛ تقديرًا لرفضه استخدام القوة في مواجهة الانفصال في سوريا، ومؤرخة في 3 أكتوبر 1961، وكانت رسالة شفوية حملها السفير الأمريكي، وجاء فيها: واشنطن في 3 أكتوبر 1961 الساعة الحادية عشرة ليلًا.. لعناية السفير فقط، إذا كان في تقديرك أن مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر سوف تؤدي غرضًا مفيدًا فقد سمحنا لك بمقابلته على وجه السرعة لنقل محتوى الرسالة الشفوية التالية من الرئيس كنيدي: “الرئيس مسرور للغاية من رسالة ناصر الودية المؤرخة 22 أغسطس، ويرغب في مواصلة تنمية العلاقات المثمرة على المستويين الشخصي والرسمي، والرئيس يتفهم المشكلات التي أفرزتها الأحداث الأخيرة في المنطقة السورية من الجمهورية العربية المتحدة، بالنسبة لناصر، ويقدر جهود عبد الناصر لتحقيق استقرار الوضع بالرسائل السلمية، والرئيس معجب بشكل خاص بالخطاب الذي ألقاه ناصر في 29 سبتمبر، حيث ظهرت فيه براعته كرجل دولة عندما رفض اللجوء إلى القوة في سفك الدم العربي كوسيلة لتسوية النزاع الحالي مع المتمردين السوريين، ويود الرئيس أن يؤكد لناصر أن قرار الاعتراف بالنظام السوري لم يتخذ بعد، وأن الولايات المتحدة ترغب في التشاور مع حكومة الجمهورية العربية المتحدة حول مسألة الاعتراف بهذا النظام”. انتهت.
في رسالة من كنيدي إلى عبد الناصر بخصوص القضية الفلسطينية مؤرخة في 11 مايو 1961 ونظرًا لضوابط مساحة المقال أقتبس بعضًا منها: “البيت الأبيض- واشنطن 11 مايو 1961، عزيزي السيد الرئيس: لقد تركز اهتمام العالم في الأشهر الأخيرة حول عدد من المواقف الدولية القابلة للانفجار، التي يمكن أن تظهر نتيجتها الفرق بين الحرية وبين العبودية وبين السلام وبين الحرب.. بالنسبة لملايين عديدة من الناس وربما للجنس البشري كله في نهاية الأمر.. كثيرًا ما اتجهت أفكاري نحو الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي أسهمت كثيرًا جدًا في التراث الديني والثقافي السائد في العالم اليوم، والتي لا تزال تنطوي على إمكانات عظيمة للمساهمة في الحضارة، وإنني كأمريكي لفخور لأن آراء الوطنيين الأمريكيين الذين أسسوا الولايات المتحدة- من أمثال أبراهام لينكولن وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت- قد لعبت دورًا عظيمًا أدى إلى ظهور دول عربية مستقلة فتية.. وقد لاحظت في الأسابيع الأخيرة بعض التكهنات عن الاتجاه الذي تسير فيه سياسة حكومة الولايات المتحدة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وأود في هذا الصدد أن أؤكد لكم أن الآراء والأفكار التي ورثناها عن الرجال السابق ذكرهم جزء من الألياف الأساسية التي يتكون منها كيان الأمة الأمريكية، وإنني- بوصفي رئيسًا لهذه الأمة- أعتزم التمسك بتلك الآراء والأفكار، بمعنى أنكم ستجدوننا في كل وقت وفي كل مكان مساهمين في الكفاح في سبيل تحقيق تكافؤ الفرص، وإقامة حكومات من الشعب وبواسطة الشعب لخدمة الشعب، وفي سبيل التحرر من العوز والخوف، وكذا في سبيل تطبيق العدالة عند تسوية المنازعات الدولية..”.
ثم يستطرد الرئيس كنيدي في رسالته للرئيس ناصر ويصل للوضع في فلسطين فيكتب: “.. إن الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي يعتقدان أن من الممكن إيجاد تسوية مشرفة ومتسمة بطابع إنساني، وهما مستعدان للمساهمة في الأعمال والأعباء التي لا بد أن تنجم عن حل لمثل هذه المشكلة العويصة، إذا رغب الأطراف الذين يعنيهم الأـمر في هذه المساهمة.. إننا مستعدون للمساعدة في حل مأساة مشكلة اللاجئين العرب على أساس المبدأ القاضي بإعادتهم إلى ديارهم أو تعويضهم عن ممتلكاتهم، كذلك نحن على استعداد للمساعدة في إيجاد حل منصف ومعقول للمشكلة الناجمة عن المشروع الخاص بتنمية موارد مياه نهر الأردن.. وإنني لمسرور لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة أبرزت أخيرًا ضرورة الإسراع بتنفيذ توصياتها السابقة بشأن مشكلة اللاجئين، وأود بهذه المناسبة أن أذكر بوضوح أن موقف هذه الحكومة حيال تلك المشكلة يستند وسيظل مستندًا إلى التمسك بتأييد توصيات الجمعية العامة بشأن اللاجئين، مع الاهتمام بدون تحيز بتنفيذ تلك التوصيات بطريقة تعود على اللاجئين بأكبر قسط من المنفعة”.
انتهت الاقتباسات من رسالة كنيدي لعبد الناصر في 11 مايو 1961، وكم أود أن تأتي فرصة لأعرض مضامين رسائل أخرى، لنعرف لماذا تم اغتيال كنيدي، ولماذا تم التخلص من عبد الناصر، رغم أنني أميل إلى أنه تم اغتياله.
____
المصدر: صحيفة المصري اليوم
06_ 08_ 202
كافة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية هم من البروتستانت الصه.اينة إلا جون كيندي كان كاثوليكي لذلك تم إغتياله، والرسائل المرسل الى الرئيس القائد الراحل جمال عبد الناصر تؤكد الرؤية الموضوعية لكندي تجاه القضايا العربية وفلسطين خاصة.