محمد العدوي طبيب وروائي مصري، هذه الرواية باكورة أعماله الأدبية.
الرئيس، رواية متعددة المستويات، والرئيس هي تسمية تتعلق بالطبيب والمفكر والفيلسوف ابن سينا، الرئيس أحد أسماؤه، حيث كان في زمانه رئيسا للأطباء.
محمد بطل الرواية ، شاب مصري اجتهد لتكوين نفسه وحياته، درس الطب، وعندما دخل عالم الإنترنت من خلال ايميل خاص به، اختار اسم ابن سينا، كان ذلك في نهايات القرن الماضي، محمد متشبع نفسيا وفكريا بالعمق التاريخي العربي والإسلامي، مغرم بالبحث عن عمق الأشياء والواقع والتاريخ، يغوص عميقا في البحث في كل شيء، اختياره اسم ابن سينا بسبب ولعه بهذا الفيلسوف الموسوعي الذي بحث في كل شيء، ومنها الطب، كان طبيبا معالجا وكان وزيرا لكثير من الحكام في زمانه، و صحبه الحكام لها مكاسبها ،و لها مساوئها ، تارة في صدارة المجالس، وتارة في السجن، وكثيرا من الأحيان متواري وهارب إلى حيث يعيش الأمان. محمد حلم أن يذهب إلى موطن ابن سينا الذي ولد في بخارى، وانتقل إلى بلاد فارس وعاش فيها، وصل الى طهران ووصفها ومدن أخرى كثيرة، يعالج مرضاه، وينصح العلماء ويدرس على أيديهم يعلم ويتعلم، ويكمل تآليفه، ويصاحب الحكام ويقدم لهم المشورة والنصح. محمد يعيش زمنه المعاصر زمن إصدار الرواية حيث جاء الربيع العربي، وقامت الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن، كان قد قدم طلب من السلطات المصرية السماح له ان يسافر إلى إيران أيام حكم “مبارك”، وكان الجواب دائما بالرفض، وبعد الثورة سمحت له السلطات بالذهاب إلى ايران، لكي يكمل حلمه بأن يطل عن قرب على الأجواء التي عاش بها ابن سينا. محمد لا يخفي انتماءه للثورة المصرية والربيع العربي، فهو من جيل الشباب الذي حلم كثيرا ان يصل إلى مجتمع تتحقق فيه قيم الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية، وكان له صديق سوري “عبد الرحمن” هو أيضا ينتمي للثورة السورية، فهو ولد وعاش خارج سوريا، حيث كان والده معارض للأسد الأب منذ ثمانينات القرن الماضي، وهرب ناجيا بروحه ، وأسس حياته خارج سوريا، عبد الرحمن صديقه، التقى به في مصر وفي المدينة المنورة، شجعه على متابعة حلمه بالذهاب الى موطن ابن سينا في إيران وهكذا حدث. محمد يبدأ رحلته إلى إيران، في الطائرة سيتعرف على عائلة الزوج ايراني والزوجة عراقية، ويذهبان إلى طهران، حدثهم عن مقصده، وقدموا له النصح ، وتبين أن لهم ذات الاهتمامات التاريخية، يستعيد محمد بينه وبين نفسه ومع العائلة، تاريخ الانشقاق التاريخي بين الشيعة والسنة، وكيف ألتحق الإيرانيون الفرس بالمذهب الشيعي، وكيفية التماهي – عندهم- بين المذهب الشيعي والانتماء الفارسي، تحدثوا عن الشعور الفارسي العميق بأن العرب المسلمين أسقطوا دولتهم الفارسية يوما، وأنهم لم ينسوا ذلك، لذلك اخذوا الإسلام بهويته الشيعية، ورفضوا التعريب، تماما كما حصل مع الترك، بينما كل البلاد العربية، ثبتت اسلامها مع تعريبها، تماما كما حصل مع مصر، ولو عبر أكثر من قرن من الزمن. وصل محمد إلى طهران أخذ باتساعها وجمالها، وجدها ممتلئة بكثير من التاريخ، وكثير من المعاصرة، وخاصة بعد حركة الخميني، ونشأة الحكم الإسلامي الشيعي فيها، الخميني رمز شعبي وديني كبير، صوره والصرح الكبير المقام على قبره، وأسماء الشوارع ، كلها تذكر فيه، أنه أب الدولة الإيرانية الحديثة بكل معنى الكلمة، منه تؤخذ كل الشرعيات، والكل يسير في الحكم حسب نهجه الذي أسسه، الخميني لم يمت في إيران. استقر محمد في طهران قليلا وبدأ ينتقل إلى المدن التي احتضنت ابن سينا، بين طهران واصفهان وغيرهما، استعان بكثير من الأصدقاء العارفين، الذين كانوا يقدمون له خلاصة معارفهم حول موضوعه الشغوف به؛ ابن سينا، تعرف على فتاة ايرانية وكذلك فتاة تركية، غاص عميقا في العمق الثقافي الايراني ، استرجع الشاعر الفردوسي، وكذلك استرجع مع صديقته التركية شغفها بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي، تعايش مع أجواء التصوف والبحث عن الكمال، بالبحث عن العلاقة مع العباد ورب العباد، كان ممتلئا بالتاريخ وبالمعلومات، فهو يعيش في كل مكان يصل إليه مع عمقه التاريخي، وما مر عليه من أحداث وبشر، لكل ما يراه عمقه الوجداني والمعرفي، فهو يتابع ما يراه وكأنه عالم جيولوجيا يقرأ طبقات الأرض بتتاليها فوق بعضها ، طبقات تصنع حاضرها الذي نراه، وتفسر لنا لماذا هو هكذا الان . يحدثنا عن جمال الطبيعة والعمران بعمقه التاريخي، والعمران بصفته تاريخ معاش يعرف ويفسر ويستمر في المستقبل كنهر أدرك مجراه من آلاف السنين. محمد في متابعته للنص الذي يدونه لما يعيش يجعلنا ننتقل دون عناء بين المعاش المباشر والتاريخ وحكايا ابن سينا وعلاقته مع أهله وجواريه وتلامذته ومع أصحاب السلطان، كل ذلك في الزمن الحاضر المعاش وكأنه الان، وهذا يعطي للرواية جمالية فريدة، فعند التحدث عن جواري ابن سينا حيث يخص جاريتيه الأقرب إليه “نسرين” و”ورد”، بحيز كبير لنفهمهم ونفهم زمانهم وظروفهم الذاتية، الزمان القرن الخامس الهجري و نسرين الفتاة التي ولدت من أسرة مجوسية في بلاد فارس ، تعيش في قرية متواضعة مع اخيها الذي يكبرها ووالدها، والدتها متوفاة، أسرتها حافظت على دينها المجوسي، بينما أغلب سكان القرية دخل في الإسلام، عندما كبرت واخاها، عشقها اخاها، وأراد التزوج منها حيث تسمح الديانة المجوسية (عبادة النار) بالزواج بين الاخوة، الأب لم يستطع تقبل ذلك، أبعد الابن عن البيت لفترة من الزمن، و اضطر أن يبيع ابنته بأسرع وقت، ومن اشتراها زوجها لاحد عبيده، عاد الاخ فوجد أخته قد بيعت و تزوجت، عانى كثيرا وقرر أن يقتل زوج اخته، ونفذ ذلك، وعندما واجهه القاضي بتهمته، وأراد القصاص منه، طالبت القاضي بأن يعفوا عنه وأن يستعبدها بدلا عن ذلك، وكان ابن سينا حاضرا، وواجه القاضي ، وساعد الاخ ولم يحصل عليه القصاص، وأصبحت نسرين جارية ابن سينا، نسرين التي انتقلت للعيش في كنفه، واحتضنتها جاريته الأخرى ورد. ورد الفتاة القادمة من بلاد الهند حيث قريتها التي تعيش على ضفاف نهر الغانج، القرية التي تقدم فتياتنا الابكار في كل سنة قربانا ( أضحية) لنهرهم المقدس لكي لا يفيض، وأن فاض لا يؤذيهم، وأخبر الكاهن عائلة ورد ان الدور على ابنتهم لتكون قربانا للنهر ذاك العام، ولأن الاهل لم يقبلوا بما سيصيب ابنتهم، لذلك باعها والدها لتاجر عبيد عربي، ليذهب بها إلى حيث يعيش ابن سينا، ليشتريها أحدهم ويهديها لابن سينا ، وتصبح جاريته الأقرب الى نفسه وروحه. ورد احبت ابن سينا بعمق وشغف كبير، وآمنت به فكانت السند له دوما. ابن سينا الذي ومنذ صغره شغف في معرفة كل شيء عن كل شيء، درس خواص الجسد بما توصل إليه العلم في زمانه ، بحيث أصبح رئيس أطباء زمانه، تعمق في الطبيعة والعلوم، درس في الإلهيات والفلسفة والمنطق والأديان، غاص عميقا في الخير والشر والحكم الصالح، لذلك كان قريبا من الحكام ، الذين يبحثون دائما عن فرص ملازمته، هذه الملازمة التي جعلته ضحية كثير من الوشاية وسوء المعاملة، فكان يهرب أو يتوارى إلى أن يجد لنفسه أمانا يعيشه من سلطان لا تكتمل شروط الحياة الا بوجوده، ظالما أو عادلا، وكان ابن سينا يعمل دوما ليكون الحاكم أقرب للعدل، ليكون أقرب الى ميزان الكون المضبوط، وأقرب لإرادة الخالق عز وجل من خلق الكون والإنسان ، وتحميله مسؤولية استخلافه في الأرض. وينتهي ترحال ابن سينا بين بحثه العلمي الدؤوب في كل أبواب العلم وتدوينه لكثير من الكتب، ومرض أخيرا في القولون وقوي عليه المرض وصار يؤدي لفقدان الوعي، وادى أخيرا لوفاته عن عمر مبكر، قبل وصوله الستين من العمر.
تنتهي الرواية ومحمد عائد إلى القاهرة ، مارا إلى المدينة المنورة أولا حيث يقوم بزيارة قبر النبي والصلاة في مسجده. وليعود وقد امتلأ عبر شهر من الزمان بعمق تاريخي ومعرفي، بعد زيارته لايران والمدن التي احتضنت ابن سينا والغوص عميقا في تجربته وأعماله وزمانه وعصره.
وفي تقييم الرواية نقول: إننا امام نمط من السرد محكوم بذاتية الروائي فهو كالنحلة تنتقل بين زهرة وزهرة لتحصل عسلا رائعا فيه غذاء وشفاء للناس، وهذا كان ما فعله الروائي بالتنقل في الزمان والمكان والأشخاص ليقدم لنا عمله منجزا، لم يبتعد عن عصره، وقال رأيه، وحدد انتماءه إلى الربيع العربي وثوراته، وحدد موقفه من الأديان بصفتها حاجات إنسانية ، وأدوات بناء حياة أكثر إنسانية وإخاء وعدل وتسامح، دخل في التاريخ متساميا عن حقائق الصراع المباشر بسبب الساسة والحكام، وصولنا إلى أطوار تحولت بها دول كإيران متورطة بالحروب ضد شعوب المنطقة كلها، عاملة لتصل لوهم تفوق فارسي أو خلاص ديني شيعي على طريقتهم. أراد القول إننا كدولة وأمم موجودين من زمان سحيق، والى زمان قادم لمئات السنين، وليس لنا الا ان نستوعب تنوعنا واختلافنا وضرورة توافقنا على مصالحنا المشتركة ، وما بيننا من توافقات أكثر بكثير من الاختلاف ، والتفاهم أولى دائما.
الأهم في الرواية هو لغة الرواية المناسبة مع النفس، الرقراقة كجدول ماء، المعانقة للمعنى الأسمى في كل شيء تمر عليه .
٢/٥/٢٠١٨