بعد تأمين تمويلات قدرتها وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية بنحو 60 مليار دولار، تبحث مصر عن جذب المزيد من دول الخليج، حيث من المقرر وفق تصريحات مسؤولين أن يقوم الصندوق السيادي، الذي يمتلك حصصا في شركات حكومية، بجولة ترويجية لاستعراض الفرص الاستثمارية خلال الأسابيع المقبلة.
ونقلت وسائل إعلام محلية عن وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية في مصر، هالة السعيد، قولها إن الجولة تتضمن لقاءات مع الصناديق السيادية المماثلة والمؤسسات المالية والمستثمرين في السعودية والإمارات والكويت وقطر وسلطنة عمان، لاستعراض الفرص الاستثمارية، وما تم اتخاذه من إجراءات وإصلاحات مؤخرا.
وتتزامن هذه الخطوة، مع موافقة الحكومة، خلال الشهر الجاري، على مشروع قانون “تنظيم ملكية الدولة في الشركات المملوكة لها أو التي تساهم فيها”، والذي ينص على إنشاء وحدة مركزية لحصر ومتابعة الشركات المملوكة للدولة، بهدف تحديد آليات التخارج من هذه الشركات.
وتهدف الحكومة وفق وثيقة سياسة “ملكية الدولة”، إلى التخارج من شركات وقطاعات بهدف زيادة نسبة مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد، لتصبح 65 بالمئة.
وتقول الحكومة وفق تصريحات نقلتها وسائل إعلام إنها تمكنت، خلال العامين الماضيين، من بيع حصص تمتلكها، ضمن برنامج الطروحات الحكومية، بنسب تتراوح بين 9 إلى 100 بالمئة في 14 شركة، بقيمة إجمالية 5.6 مليارات دولار.
كما تستهدف خلال العام الحالي جمع 6.5 مليار دولارات، وفقا لوزير المالية، محمد معيط.
ماذا وراء ذلك؟
الخبير الاقتصادي عبدالنبي عبدالمطلب، يقول لموقع “الحرة” إن سعي مصر لجذب المزيد الاستثمارات يرجع إلى “الاحتياج الشديد إلى تدفقات دولارية سريعة ومستمرة”، فضلا عن “إرسال رسالة إلى صندوق النقد الدولي أنها بصدد تنفيذ تعهدات التخارج من عدد من الأنشطة وتعظيم مشاركة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي”.
ويؤكد صندوق النقد الدولي على ضرورة تخارج الحكومة من الشركات وإفساح المجال والمنافسة للقطاع الخاص، إذ تقول مديرة الصندوق، كريستالينا غورغييفا، في بيان صدر في الأول من أبريل الماضي، عقب الموافقة على زيادة التمويل لمصر، إن “تخارج الدولة والمؤسسة العسكرية من النشاط الاقتصادي وضمان تكافؤ الفرص بين القطاعين العام والخاص، يُعد عنصرين أساسيين لجذب الاستثمار الأجنبي واستثمارات القطاع الخاص المحلي في مصر”.
لهذا يضيف عبدالمطلب أن قانون “تنظيم ملكية الدولة في الشركات المملوكة، يهدف إلى تعزيز حماية المنافسة وضمان الحياد التنافسي في الأسواق، فضلا عن تنشيط الأسواق المالية وإضافة قطاعات جديدة للتعامل فيها.
ويذكر أن “القانون يعزز أيضا من السيولة في السوق، مع تطوير أداء الشركات المملوكة للدولة وتعظيم استثماراتها، بالإضافة إلى تحسين الكفاءة”.
ويرى عبدالمطلب أن هناك فرصة كبيرة لنقل ملكية “جزء من المباني الحكومية في القاهرة الخديوية إلى القطاع الخاص، سواء من خلال البيع المباشر أو بتأسيس شركة لإدارة الأصول الحكومية وطرح أسهمها في السوق. هذا سيمكننا من استخدام هذه الأصول بشكل أفضل وجذب الاستثمارات اللازمة لتطويرها”.
ومع ذلك، يشير عبدالمطلب إلى التحديات المتعلقة بإدارة ملف الأصول الحكومية، خصوصا أن “الظروف لم تكن مهيئة لتنفيذ وثيقة ملكية الدولة والتي وضعت حد أقصى 3 سنوات للتخارج من الشركات، ولم يتم تنفيذ البنود الموجودة حتى الآن”.
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي أحمد خطاب لموقع “الحرة” إن “ما تبحث عنه مصر، هو استثمارات عربية، لا تشكل خطرا عليها”، في إشارة إلى الانتقادات التي طالت بيع الأصول المملوكة للدولة.
ويضيف خطاب أن بلاده “ترحب بشركات الاستثمار العربية، وتريد إيصال رسالة مفادها أنه لا توجد عوائق الآن تمنع الاستثمارات الأجنبية”.
فيما يقول الخبير الاقتصادي، خالد الشافي، في اتصال هاتفي مع موقع “الحرة”، إن بلاده “تروج للفرص الاستثمارية المتاحة، والتي تسعى الحكومة من خلالها لجذب مليارات الدولارات خلال السنوات المقبلة، بما يدعم تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على الأزمة”.
لكنه يُقر في نفس الوقت بأن “برنامج الطروحات الحكومية لم يجذب بشكل كبير التمويلات المطلوبة منذ انطلاقه قبل أعوام، لأن الوضع كان يوجه تحديات اقتصادية تتعلق بأزمة توافر العملات الأجنبية في السوق”.
وكانت مصر تعاني قبل أكثر من عامين من نقص حاد في العملات الأجنبية، مما أسهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية وأدى إلى انتعاش السوق الموازية، حيث وصلت خلال العام الماضي أسعار الدولار إلى نحو 70 جنيها، وهو الأمر الذي يقول المسؤولون في أكثر من مناسبة إنه كان يرجع إلى “الأزمات العالمية من الحرب في أوكرانيا وصولا إلى الحرب في قطاع غزة”.
ويكرر هذا أيضا الشافي، والذي يقول إن “مصر تجاوزت هذه المرحلة الصعبة منذ مارس، بفضل التدفقات الدولارية والإصلاحات التي نفذها البنك المركزي فيما يتعلق بسوق الصرف المحلية”.
وفي السادس من مارس الماضي، سمح البنك المركزي المصري بانخفاض قيمة الجنيه بأكثر من 60 بالمئة، حيث اقترب سعر الدولار من مستوى 50 جنيها، قبل أن يتراجع تدريجيا إلى 47 جنيها للدولار الواحد في تعاملات نهاية هذا الأسبوع.
أين تذهب الأموال؟
تقول وكالة فيش في مذكرة، صدرت أبريل الماضي، إن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية ومن بينها تخفيض قيمة الجنيه المصري، جاءت بعد الحصول على تعهدات تمويلية تبلغ حوالي 60 مليار دولار.
وحصلت مصر، الشهر الجاري، على 14 مليار دولار من الإمارات قيمة الدفعة الثانية والأخيرة من صفقة رأس الحكمة، والتي اتفقت عليها مع شركة القابضة (إيه.دي.كيو) -وهي صندوق سيادي تابع لحكومة أبوظبي- ضمن خطة استثمارية بنحو 35 مليار دولار، لتنمية منطقة “رأس الحكمة” على البحر المتوسط بشمال غرب البلاد.
كما تلقت نحو 820 مليون دولار من صندوق النقد الدولي ضمن البرنامج التمويلي الذي تم الاتفاق على زيادة قيمته في مارس من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات.
وتشير بيانات البورصة المصرية، إلى أن صافي مشتريات الأجانب في أدوات الدين الحكومي (أدوات دين حكومية محلية قصيرة الأجل تبيعها وزارة المالية عبر البنك المركزي لتمويل عجز الموازنة مقابل فوائد)، والتي تعرف بـ”الأموال الساخنة” بلغ نحو 16 مليار دولار، منذ بداية مارس وحتى 14 مايو الجاري.
إلى جانب ذلك، تعهد الاتحاد الأوروبي، في مارس، بتمويلات بقيمة 7.4 مليار يورو (8 مليارات دولار) لصالح مصر على مدار 4 سنوات، تشمل قروضا ومساعدات واستثمارات في قطاعات مختلفة.
ويعتبر عبد المطلب أن التمويلات المليارية التي حصلت أو ستحصل عليها مصر خلال الفترة المقبلة، سيتم توجيه معظمها نحو سداد الالتزامات الخارجية، ودعم احتياطي النقد الأجنبي، للتحصن ضد أيض “صدمات” اقتصادية مقبلة.
ويقول خلال حديثه: “الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي واضحة، حيث إن نصف متحصلات الخصخصة والصفقات سوف تذهب لسداد الديون الخارجية، وجزء لدعم احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي”.
ويتابع عبدالمطلب : “أما هناك أيضا جزء آخر سيتم تخصيصه لتلبية احتياجات خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية”.
وتعتبر مصر، ثاني أكثر دولة اقتراضا من صندوق النقد الدولي، بنحو 14.7 مليار دولار، خلف الأرجنتين التي تستدين بنحو 40.9 مليار دولار.
فيما تبلغ حجم الديون الخارجية للبلاد نحو 168 مليار دولار في نهاية ديسمبر الماضي، من بينها 29.5 مليار دولار ديون قصيرة الأجل ونحو 138.5 مليار دولار ديون طويلة الأجل، حسب بيانات البنك المركزي.
ويشير البنك المركزي إلى أن مصر من المقرر أن تقوم بسداد نحو 8.3 مليار دولار ديون خارجية خلال النصف الثاني من العام الجاري، وما يزيد عن 4.3 مليار دولار خلال عام 2025.
ويؤكد خطاب أن بلاده “ستستخدم جزء من التمويلات لسداد التزاماتها الخارجية، حيث اعتادت على مدار السنوات على سداد القروض وعدم التخلف عنها”.
ويقول: “مبلغ الـ60 مليار دولار الذي حصلت عليه مصر خلال الأشهر الماضية سيتم إعادة ضخه في الاقتصاد بما يدعم المشروعات الكبرى التي تنفذها الدولة في قطاعات عدة، والتي سيكون لها عائدا على المدى المتوسط، خصوصا مشروعات الطاقة والموصلات، وذلك إلى جانب سداد ما تبقى من التزامات خارجية”.
ويتفق الشافعي مع هذا، ويقول إن بلاده “سوف تعمل على تحسين المؤشرات الكلية للاقتصاد، من خلال دعم الإجراءات الإصلاحية عبر السيولة الدولارية، بهدف منع عودة السوق السوداء”.
ويضيف: “إلى جانب ذلك، سيعمل البنك المركزي على تعزيز الاحتياطيات من النقد الأجنبي للوصول بها إلى مستويات مطمئنة للدولة”.
ومنذ فبراير الماضي، ارتفع احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري، بنحو 5.8 مليار دولار، ليسجل في أبريل وفق أحدث بيانات نحو 41.06 مليار دولار. فيما يتوقع صندوق النقد أن يصل إلى 53.8 مليار دولار خلال العام المالي المقبل، وهو ما يغطي 7 شهور من الواردات السلعية للبلاد.
الفجوة التمويلية
يُقدر صندوق النقد الدولي، في تقرير مراجعة برنامج التمويل مع مصر، نشره أبريل الماضي، حجم الفجوة التمويلية (الفرق بين احتياجات التمويل المتوقعة والموارد المالية المتاحة)، بعد صفقة رأس الحكمة بنحو 28.5 مليار دولار خلال فترة برنامج القرض الذي ينتهي في خريف عام 2026.
فيما يرى عبدالمطلب أن “حجم التمويلات التي تحتاج إليها مصر، يتوقف على خطة التنمية. لكن قد تحتاج إلى تمويلات إضافية في حدود 34 مليار دولار على الأقل، وهو ما يمثل الحد الأدنى للالتزامات المصرية لدى الخارج”.
بدوره، يقدر الشافعي حجم الفجوة التمويلية لمصر بنحو 24 مليار دولار خلال العام الجاري، ويشير إلى أن بلاده “”نجحت في تغطية هذه الفجوة خلال العام الجاري، بعد تأمين التمويلات الضخمة التي حصلت عليها خلال الأشهر الماضية”.
ويضيف: “كذلك نجحت الحكومة في سددت الالتزامات الخارجية خلال الستة أشهر الأولى، وستسعى من خلال خطواتها لجذب المزيد من الاستثمارات إلى ضمان تغطية الفجوة التمويلية للسنوات المقبلة”.
لكنه عاد ليقول إن “هناك ضغوطا فيما يتعلق بالموارد المالية المتاحة مع تأثر إيرادات قناة السويس خلال الأشهر القليلة الماضية بفعل الهجمات على سفن الشحن بالبحر الأحمر”.
وفي أبريل الماضي، قالت وزيرة التخطيط إن إيرادات قناة السويس انخفضت 50 بالمئة بسبب اضطراب حركة الشحن في البحر الأحمر، والتي كانت قد حققت نحو 8.8 مليارات دولار إيرادات خلال العام المالي السابق.
فيما يقول البنك الدولي في تقرير بعنوان “الصراع والديون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” إن استمرار الأزمة وانخفاض حركة عبور قناة السويس بنسبة 40 بالمئة خلال عام 2024، “يعني خسائر بقيمة 3.5 مليار دولار، والتي تمثل نسبة 10 بالمئة من صافي الاحتياطيات الدولية في البلاد”.
إلى ذلك، يقول خطاب إن بلاده “قد تتجه إلى الأسواق الدولية للاستدانة إلى جانب الاستثمارات والتمويلات التي ستتحصل عليها مقابل التخارج من الأصول، وذلك من أجل تغطية الفجوات التمويلية المستقبلية”.
ويضيف: “النظرة المستقبلية لتصنيف مصر الائتماني حاليا إيجابيا، مما يمكنها من الاستعانة بالأسواق الدولية لطرح سندات دولارية، لحين استقرار الأوضاع والاعتماد بعد ذلك على الموارد الذاتية”.
في الأخير يؤكد عبدالمطلب أن صفقة رأس الحكمة وما تلاها من تمويلات بمثابة “مسكنات” للاقتصاد، و”يجب أن تكون هناك خطة واضحة للنمو في قطاعات الاقتصاد الحقيقية، كالزراعة والصناعة، حتى لا تعود الأزمة بشكل أكثر قسوة”.
المصدر: الحرة نت