يعيد الكثيرون كلمة ديموقراطية الى الأصل اليوناني للكلمة demos التي تعني العامة وkratos التي تعني الحكم وعرفها المؤرخ هيرودوت بأنها حكم الأغلبية وعرف المجتمع الديموقراطي بانه المجتمع الذي تسود فيه المساواة امام القانون وفيه يُسأل الحكام عن افعالهم وتصرفاتهم. وكان هناك الكثير من التعاريف لكنها كلها تدور حول نفي الحاكم المطلق والسلطة المطلقة. ويعتبر النظام الذي مورس في أثينا خلال الفترة من 450قم حتى 350قم من أوائل جذور الممارسة الديموقراطية اما الفكر الديموقراطي الحديث فتعود جذوره الى بدايات الصراع بين تحالف الملكية والاقطاع ورجال الدين ضد تحالف عامة الشعب والطبقة البورجوازية في القرن السابع عشر والتي كانت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر احدى ثمراتها.
وبعد ذلك بدأت النظم الديموقراطية بالظهور من خلال مسار طويل من التطور والصراعات والحروب صحبها تطور كبير في المجال الاقتصادي نتج عنه تطور اجتماعي وثقافي لنصل الى العصر الحديث حيث ارتبطت مفاهيم الديموقراطية بحقوق الانسان. وبسبب ذلك اخذت النظم تتمسح بهذا التعبير نظراً لما يحمله من دلالات ومعاني أخلاقية فظهرت تعبيرات كثيرة كانت الكلمة ديموقراطية جزءاً منها مثل الديموقراطية الليبرالية والديموقراطية الماركسية والديموقراطية الشعبية والديموقراطية التوافقية والديموقراطية المسيحية وديموقراطية الإسلام وكدنا لولا قليل من الحياء ان نصل الى تعبير الدكتاتورية الديموقراطية. اي انه لم يتم تشويه مصطلح بقدر ما شوهت الديموقراطية.
اختلاف الرؤى والمصالح في المجتمعات يمكن ان تدار بإحدى الطرق مثل: تجاهلها وانكارها، قمعها ومنعها من الظهور وادارتها بشكل سلمي والاعتراف بها وهذا هو جوهر الخلاف بين النظم السياسية. فالإدارة الديموقراطية للاختلافات والصراعات تبدأ بالاعتراف بشرعية وجودها وبالتالي فان جوهر الديموقراطية يتمثل في إدارة الصراعات بشكل سلمي ينظم المصالح والآراء المختلفة ويعترف بشرعيتها جميعا.
ويمكننا القول انه لا نستطيع ان نحصر معنى كلمة ديموقراطية في تعريف ثابت لأنها حصيلة تطور افكار وخبرة اجتماعية تتم اعادة صياغتها وتطويرها عبر العصور حيث تم تعريف النظام الديموقراطي في منتصف القرن العشرين بانه النظام الذي يتأسس على المشاركة وتبادل صنع القرار من خلال انتخابات حرة تنافسية. ويستند الديموقراطي الى مجموعة من
القيم والمؤسسات التي هي تجسيد لتلك القيم.
اولاً القيم الديموقراطية
بعد هزيمة المانيا الامبراطورية في الحرب العالمية الاولى قام الحلفاء بفرض النظام الديموقراطي على المانيا والدول الاخرى المعروفة بدول المحور لكن النتيجة في المانيا كانت مختلفة حيث تحرك الشارع الالماني لصالخ ادولف هتلر مما اثار تساؤلات عن سبب صعود هذا الشكل من الحكم حيث قام انصار هتلر بالانقلاب على الديموقراطية وحرق البرلمان والغي الدستور الديموقراطي وغرض نظام الحزب الواحد وكان السؤال لماذا, وكانت الاجابة بسيطة غياب القيم الديموقراطية وتبين انه لا يمكن لنظام ديموقراطي ان ينجح ويستمر دون وجود ثقافة ديموقراطية ويظل النظام الديموقراطي فيه هشاً ودون جذور وكان الاعتقاد بأن نجاح النظام الديموقراطي واستمراره يتم من خلال وجود الثقافة والقيم الديموقراطية وهذه تتمثل في ثلاث قيم :التعددية والحرية والعدل.
- التعددية: هي القبول بأن الحقيقة لا تتركز في عنصر او مضمون او مبدأ واحد بل تقبل التنوع في هذه العناصر والتنوع يقوم على التكافؤ والندية ولا يملك أحدهما الغاء الآخر وهو ما يسمى بالتعددية الديموقراطية اما التي تقر بالتعدد وفق ترتيب معين ليست على اساس المساواة حيث يكون لاحد المضامين وفق ذلك مكانة اعلى وله الاولوية على المضامين الاخرى على المضامين الاخرى. فالديموقراطية هي عملية ادارة التعدد والاختلاف يشكل سلمي مما يسمح لأكبر عدد من الناشطين في المجتمع بتنظيم أنفسهم والتعبير عن مصالحهم بشكل سلمي. ان جوهر التعددية السياسية يقوم على وجود مجموعة من القوى والفاعلين يشكلون عصب الحياة السياسية وعلى رأس هذه الجماعات الاحزاب وفي بعض الدول الجماعات الاثنية والمذهبية حيث تتمتع هذه القوى بدرجات من حرية العمل مما يجعل صوتها مسموعاً لدى السلطة وتتداول القوى السلطة من خلال انتخابات دورية. لا يقتصر مبدأ التعددية على القوى السياسية بل تعدى ذلك الى السلطات فنادى المفكرون الديموقراطيون بالفصل بين السلطات واستقلاليتها وتوزيعها بين تشريعية وتنفيذية وقضائية وعدم تغول سلطة على الاخرى. وربطوا ذلك بتداول السلطة بين الاحزاب وفقاً لإرادة المواطنين. وترتب على ذلك القبول بمبدأ التفاوض وتشكيل الائتلافات والبحث عن حلول وسطى فالشرعية مصدرها الديموقراطي هو الاغلبية والاقلية معاً حيث ان اي حزب سياسي يدرك انه في مركب واحد مع شركاء قد لا يشاطرونه نفس الرأي وليس لأي شريك ان يفرض آراؤه على الآخرين. ويعتبر التسامح أحد اهم المبادئ المرتبطة بالتعددية حيث يجب احترام الآراء المخالفة باعتبار ان كل منها يمثل الرأي الصحيح بالنسبة للطرف الآخر وليس لاحد الزعم بأن رأيه هو الصحيح دون الآخر فالعلاقة عندها تتحول من الحوار الى الوعظ والارشاد. فليس هناك في السياسة حق مطلق او خطأ مطلق.
- الحرية: هي تعريفاً التحرر من القيود والقدرة على التعبير عما يعتقد الانسان بالقول والفعل حيث تضمن الحرية حق البشر بالتعبير عن معتقداتهم وآرائهم واحترام اراء الآخرين بغض النظر عن كثرة المؤيدين او قلتهم حيث تستند هذه القيمة الى قدرة الانسان على الاختيار الرشيد وان الحريات الشخصية والعامة قيم تولد مع الفرد فالأصل في الديموقراطية هو الاباحة في مجال الحريات الشخصية والعامة ما لم بكن هناك قانون يقيدها كما ان الحرية تحوي اشكالية حيث ان حرية اي شخص تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر. لقد اثيرت ضمن ممارسة الحرية قضايا اشكالية في الدول الديموقراطية تتعلق بالأقليات الاثنية والدينية مثل (الموت الرحيم وحق الاجهاض وارتداء الحجاب او النقاب والرسوم الفنية والكاريكاتورية والزواج المدني والافلام وزواج المثليين وكثيراً من القضايا لا يتسع المجال لذكرها) لذا فعلى الاغلبية حين تحكم وتسن القوانين ان تراعي الالتزام بحقوق الانسان بمناهضة اي تمييز بسبب اللون او العرق او العقيدة كما انه من حق اصحاب الآراء المخالفة ان يُدوَن رأبهم في محضر اي اجتماع يسود فيه رأي الاغلبية.
- العدل: قيمة يمكننا تعريفها انها تمتع كافة افراد المجتمع بحرياتهم في اطار من المساواة وتكافؤ الفرص وهذا ما جعلها احياناً موضع شك وريبة من جانب النخب حيث خشيت ان يؤدي ذلك الى تهديد الميزات التي تتمتع بها فالعدل له ابعاد متنوعة اهمها الاقرار بمبدأ المواطنة وهي الرابطة التي تجمع بين مختلف مكونات المجتمع بتنوع انتماءاتهم والبعد الاجتماعي هم توفير الظروف الاجتماعية والاقتصادية لممارسة المشاركة السياسية والحرية ولا يقصد بالعدل هو ضمان المساواة الحسابية بين الناس ولكن ضمان الدولة للحد الادنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجميع وتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. ان المجتمعات الديموقراطية تشهد صنوفاً من عدم المساواة وفقاً لسمات معينة مثل اختلاف القدرات الشخصية والسمات الطبقية كتوريث الغنى والفقر والمهن من الاباء الى الابناء. لكن ما يجب ان يسود هو مرونة انتقال الفرد صعوداً او هبوطاً ضمن الشرائح الاجتماعية استناداً الى مبدأ تكافؤ الفرص. فاذا كان تحقيق المساواة بين البشر عملية مستحيلة فان ما على النظم الديموقراطية ان تحققه هو تكافؤ الفرص مما يوفر العل بين ابناء المجتمع.
فالحرية والعدل يحتلان مكانة في المجتمع الديموقراطي فلا يمكن تحقيق العدل في غباب الحرية ولا يمكن ضمان الحرية دون قبول التعددية فالكرامة الانسانية هي الهدف الاسمي وهي قيمة لا يمكن الوصول اليها دون تحقيق ثقافة ديموقراطية ولو من خلال تعليم القيم الديموقراطية من خلال المناهج المدرسية.
ثانيا: مؤسسات الديموقراطية
ظهرت خلال الممارسة الديموقراطية الحاجة الى الكثير من المؤسسات التي تضبط العملية الديموقراطية وكثرت الترتيبات لذلك مثل الفصل بين السلطات والخضوع للدستور وانتخابات حرة مع حق كافة المواطنين بالترشح والانتخاب وضمان حرية التعبير والحق في تشكيل الاحزاب وهيئات المجتمع المدني ومحاسبة المسؤولين واستقلال القضاء واهم هذه المؤسسات هي.
- حكم القانون: القانون هو سيد البلاد والدستور هو ابو القوانين وهو المرجعية العليا للعلاقات في المجتمع ويضمن المبادئ الاساسية لنظام الحكم وهيكل الحكومة والعلاقة بين السلطات وحقوق المواطنين وحرياتهم. فضمن الدول الديموقراطية تخضع الدول بكل مظاهر نشاطها التشريعي والقضائي والتنفيذي للقانون فلا تستطيع السلطة التنفيذية اتخاذ اجراء بحق اي فرد الا استناداً لقواعد قانونية وحتى في حالات الكوارث والحروب فان هناك قانون طوارئ يوسع من صلاحيات السلطة التنفيذية للضرورة كما لا بحق ايضاً للسلطة التشريعية سن قوانين مخالفة للدستور نصا او روحاً. كما ان حكم القانون يضمن استقلال السلطة القضائية وادائها عملها دون تدخل من السلطات الأخرى. ان حكم القانون هو ضمان تحقيق المساواة والعدل ويضمن تطبيق القواعد نفسها على جميع افراد المجتمع حكاماً ومواطنين ويضمن حل النزاعات بما يكفل حقوق كل الاطراف.
- الفصل بين السلطات: تعريفاً عدم تركيز السلطة بيد فرد او جهة او هيئة واحدة بل توزيعها بين المؤسسات وقيام كل سلطة بالرقابة على الاخرى ايضاً وقد نشأ هذا المفهوم من رفض السلطة المطلقة للملك فالسلطة تحد من السلطة اي لا يمكن السماح لاب سلطة بممارسة مهامها دون رقابة من سلطة اخرى فمثلاً لا يمكن اقرار الموازنة الموضوعة من قبل مجلس الوزراء دون موافقة السلطة التشريعية ومبدأ الفصل بين السلطات يرتبط بان الرقابة على قدر السلطة فبزيادة السلطة تزيد الرقابة فهناك الرقابة الداخلية والرقابة الادارية والرقابة التشريعية ومجلس الدولة والرقابة الدستورية ثم فوق ذلك الرأي العام حيث تشكل جميعها هيئة المحاسبة في النظام الديموقراطي بحيث تمارس دورها في اطار القانون.
- تعدد الاحزاب: لا يمكن تصور قيام نظام ديموقراطي دون قاعدة السماح بتعدد الاحزاب حيث ان التعددية الحزبية هي سمة ملازمة للنظام الديموقراطي حيث لا يمكن تصور نظاماً ديموقراطيا دون تعدد احزاب لكن من السهل ان تجد نظاماً لا ديموقراطياً سلطوياً ظهرت فيه صيغ التعددية الحزبية المقيدة حيث يظهر شكل التعدد الحزبي دون جوهره مع استمرار سيطرة الحزب الواحد فبدون الاحزاب تصبح السياسة لعبة يلهو بها الاقوياء ورجال المصالح وانه لا ديموقراطية دون سياسة ولا سياسة دون احزاب فالتعددية الحزبية هي شرط لازم غير كافي للديموقراطية.
- وجود مجال عام مفتوح وحر: ان وجود مثل هذا المجال بعيداً عن سيطرة الدولة يلغي صفة الاحتكار السياسي وهذا ما يرتبط بالنظام الديموقراطي فسيطرة الدولة على مصادر القوة والنفوذ بشكل كامل يوفر البيئة المحببة للنظم التسلطية ويهيئ لنشوئها فكلما زادت قدرة المواطنين على انشاء الجمعيات والمنظمات تمتع المجتمع بالحرية وأصبح بإمكان الهيئات الاجتماعية التواصل بحرية مع الرأي العام. فالتعددية الحزبية والحرية الاعلامية تضمنان استمرار تداول المعلومات ويساعد الاعلام الحر مراكز القرار على التنبؤ بالأزمات والصعوبات ووضع الخطط التنموية للمستقبل.
- انتخابات عامة ودورية ونزيهة: ان الانتخابات العامة هي الالية لتداول السلطة واختيار المسؤولين من رئيس جمهورية واعضاء المجالس التشريعية والمحلية وغير ذلك مما يتم شغله بالانتخابات حيث ان الهدف من كونها دورية هو اتاحة الفرصة للمجتمع للحكم على اداء المنتخبين والتجديد لهم واستبدالهم بين فترة وأخرى اما النزاهة فهي للتأكد من ان هذه الانتخابات تعبر فعلا عن ارادة الناخبين. هناك معايير يجب ان تتوافر في هذه الانتخابات منها ضمان وصول الناخبين الى مراكز الاقتراع وشمول حق الترشيح والانتخاب ضمن شروط القانون والمصداقية والشفافية في فرز الاصوات واعلان النتائج واليات تظلم فعالة بشأن النتائج والقبول بها.
فالنظام الديموقراطي يقوم على المشاركة اي ان القرار الذي يتم اتخاذه هو حصيلة توافق عام بين الفعاليات السياسية والاجتماعية المعبرة عن مصالح المواطنين لذا فعلى النظام السياسي تامين الظروف التي تشجع المواطن على المشاركة وازالة العوائق امام ممارستها فمن حق الشعب ان يعرف من خلال حرية وسائل الاعلام والاتصال.
فالنظام الديموقراطي يكون قوياً بمقدار ما يؤسس لقيم ومعايير مستندة الى ارادة المجتمع ولا يسمح لاحد بسلطة مطلقة وبالتالي يكون النظام قادراً على تطوير نفسه وتصحيح مساره.
وبذلك نخلص الى ان النظام الديموقراطي هو النظام الذي تكون السلطة النهائية بيد الشعب وسلطة الحكام مقيدة وحقوق الافراد وحرياتهم مصونة وفي إطار هذه المبادئ يمكن للنظم ان تختار الاساليب للوصول الى النظام الديموقراطي الامثل.