في التاسع عشر من تموز/ يوليو 2010 رحل عن دنيانا مناضل وطني عنيد، في مثابرته وتفانيه، في لحظة انفعال، ومواجهة، داخل فرع الأمن الجنائي بحلب، على خلفية قضية تتعلق بخدمة العلم لابنه جمال، لم يمهله القدر لتجاوزها، ليعيش معنا، وبيننا، انطلاقة الثورة_ الحلم ومنعرجاتها، وهو الذي جسد في حياته وسلوكه ثورة دائمة، لا تعرف التراجع أو الفتور، بكل ما للكلمة من معان وقيم.
قبل عشر سنوات رحل محمد وديع شعبوق/ أبو علاء، بعد مسيرة حافلة بالنضال والعطاء المستمرين، لم يعرف خلالهما، “إجازة محارب”، فقد خاض تجربة الاعتقال في عام 1979 وهو طالب جامعي في كلية الهندسة الكهربائية على خلفية نشاطه الطلابي والسياسي المعارض، وعرف الملاحقة والتواري لسنوات عديدة، على خلفية حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت عناصر التنظيم الشعبي الناصري عام 1986.
بدأ حياته السياسية، منذ ريعان شبابه في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي/ محمد الجراح، ثم انخرط في صفوف التنظيم الشعبي الناصري، الفرع السوري لتنظيم الطليعة العربية، القومي، وحمل أمانة استمرارية التنظيم، بعد الضربة الاستئصالية، من خلال ما عرف بالقيادة المؤقتة، مع عدد محدود من المناضلين، الذين لم تهن عزيمتهم أو تفتر همتهم، رغم مخاطر ذلك في تلك المرحلة، والأعباء الكبيرة التي تحملها مع ثلة من المؤمنين.
بعد أن لملم التنظيم صفوفه، وأعاد بناء هيكليته، في 2002، من خلال مؤتمر استثنائي، كان أحد قادة تلك المرحلة أيضًا، التي انتهت بالاندماج بحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، في 2004، والذي انتخب في قيادة فرعه في حلب قبل أن يؤثر الابتعاد عن الواجهة.
محمد وديع شعبوق مواليد 1956 ينحدر من مدينة سلقين/ محافظة إدلب من أسرة مكافحة، وبسيطة، درس الهندسة الكهربائية وتخرج منها، وعمل مدرسًا في المعاهد الصناعية في مدينة حلب، وعند رحيله كان قد أصبح مديرًا للمعهد الأول لكفاءته العلمية المشهود له بها، وخبرته الادارية، وعرف عنه في مسلكه الوظيفي استقامته ونزاهته وصرامته في العملية التربوية والأخلاقية، وفي كل ذلك كان رجلاً عصاميًا غالب ظروف الحياة وقسوتها، التي لم تجد عليه إلا بالنذر اليسير، ورغم معاناته في رحلة حياته الحافلة والقصيرة ، ظل من أكثر الناس التزامًا وعطاءً وصبرًا، لا يهدأ في حراكه ونشاطه الذي كان دائمًا على حساب أسرته وراحته، مثل كل الذين حملوا على كواهلهم وفي عقولهم هموم الوطن وقضاياه الكبرى.
رحل قبل عقد من الزمان تاركًا خلفه شابين وثلاث فتيات، عاجل القتل، البكر فيهم، علاء، بعملية قنص غادرة وجبانة طالته في حي سيف الدولة في مدينة حلب، اقترفها عناصر نظام الطغيان والإجرام في عام 2012، أثناء تواجده في المكان لطلب رزقه وتحصيل لقمة عيشه.
أبو علاء نموذج وطني نادر في إخلاصه وتفانيه، وجرأته وشجاعته التي يشهد له بها كل من عرفه واحتك به، والتي كثيرًا ما وصلت إلى مستوى التهور، إضافة لثقافته الواسعة وقناعاته الراسخة التي كان يدافع عنها بشراسة، مما أهلته لأن يكون متصوف في محرابها، ليس إلا.
رحل أبو علاء في لحظة إيذان ببدء ثورات الربيع العربي، التي آمن بها، خلاصًا من الاستبداد والفساد، لإرساء قيم الديمقراطية والحرية والكرامة، وإقامة دولة العدالة والمساواة، والوحدة، وكأنه في رحيله أراد أن يقول ألا إني عملت وبلغت وأديت رسالتي على أكمل وجه، أستأذنكم الرحيل والراحة.
رحمه الله وغفر له، ونحن إذ نتذكره اليوم فلا غاية لنا سوى التعبير عن وفائنا لنماذج وطنية مخلصة قدمت الكثير في مسيرة النضال الوطني الديمقراطي، والعروبي، وليبقوا أحياء وخالدين في الذاكرة الجمعية للثورة، والمؤمنين بها، وعناوين مضيئة في الذاكرة الوطنية العامة لشعبنا وأجيالنا القادمة.