خلال الاجتماع الأمنيّ والقضائيّ في السّرايّ الحكوميّ، منذ عدّة أيام، جرى اتصال بين رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، ورئيس حكومة نظام الأسد، حسين عرنوس، للتباحث والاتفاق على تولّي الأمن العام اللّبنانيّ، التنسيق مع حكومة النظام، بغية العمل على بحث مضامين تطورات ملف اللاجئين السّوريّين وتحديدًا المساجين منهم. بالمقابل، تمّ تكليف مدير عام الأمن العام بالإنابة اللواء إلياس البيسري، للتواصل مع سلطات النظام، لبحث إمكان تسليم الموقوفين السّوريّين لتخفيف الاكتظاظ داخل السّجون اللّبنانيّة.
وتأتي هذه الخطوة بعد زيارة سابقة قام بها البيسري إلى دمشق في أيار الماضي، على متن المحادثات اللّبنانيّة -السّوريّة في ملف اللاجئين.
وبصرف النظر، عن كون هذا الإعلان، جاء في غمرة الإجراءات والخطط الحكوميّة المُجحفة والانتقاميّة بحقّ اللاجئين، ولا يعكس بجوهره أي نيّة حقيقيّة لإصلاح أوضاع السّجون بصورةٍ جذريّة وعادلة، فإن بُعدًا آخر مُهمل، بات من المُلّح والواجب إنعام النظر فيه، غداة أي تعليقٍ سياسيّ أو قانونيّ أو حقوقيّ على هذا الإعلان وما يماثله من طروحات حكوميّة. وهو بالطبع البُعد العمليّ الذي أثبتت السّلطات المارقة فشلها فيه.
فالملاحظ، بات في الآونة الأخيرة، هو الانجرار العاطفيّ، أكان في الطرح أو في نقيضه. فمحاولة السّلطة ابتزاز المجتمع الدوليّ وتلقف اهتمام المواطنين وكسب رضاهم في ذروة الفشل والإفلاس، كما محاولة الحقوقيين والنشطاء استنهاض مشاعر التعاطف الإنسانيّ لدى هؤلاء الأطراف.. لم تفضِ المحاولتين إلى النتيجة المرجوّة. أكان بتنظيم الملف في لبنان بما يصبّ في صالح السكّان حصرًا (وليس السّلطة طبعًا)، أو حماية اللاجئين من تعسف السّلطة اللّبنانيّة وسياسة اللاسياسة الّتي تعتمدها، وإجرام نظام الأسد، وتأمين ظروف اللجوء الإنسانيّ بالحدّ الأدنى، وضمان عدم تعرضهم للانتهاكات الحقوقيّة الجسيمة، تحت مظلّة التنظيم.
اللاجئون في السّجون اللّبنانيّة
بالعودة إلى الإعلان الحكوميّ، الذي أثار حالة من الذعر لدى المحتجزين من اللاجئين، الذين يفضلون الموت وشنق أنفسهم على العودة إلى النظام (راجع “المدن”)، فالغاية المُعلنة، هي وضع حدّ للاكتظاظ داخل السّجون اللّبنانيّة. علمًا أن أعداد المساجين من التابعيّة السّوريّة تتراوح بين 1600- 1800 سجين من أصل ما يتراوح بين 10- 13 ألف سجين (أي بين 18-25 بالمئة) في مراكز الاحتجاز الـ25 في لبنان، حسب تقارير مصلحة السّجون ووزارة العدل الّتي اعتمدتها المراجع الحقوقيّة، والّتي تتعارض مع التصريحات الحكوميّة الّتي تقول بأن نسبة اللاجئين تتخطى 35 بالمئة، وتُسقط بالتوازي حجة السّلطات بكون الاكتظاظ سببه اعتقال هؤلاء. علمًا أن 80 بالمئة منهم (1440 نزيلاً) غير محاكمين حتّى اللحظة. بعضهم لا يزال محتجزًا بناءً على إشارات قضائيّة بالتوقيف الاحترازيّ أو الاحتياطيّ من دون مراعاة المهل القانونيّة أو قيد التحقيق. وآخرون لم يحصلوا حتّى اللحظة على الحقّ بالحصول على الدفاع القانونيّ. أما النسبة الأكبر منهم فأولئك الذين بقوا بانتظار رحمة القضاء اللّبنانيّ للبت في قضاياهم بين الاعتكافات والمشاجرات، أو ببساطة، توافر الآليات لسوقهم إلى المحاكم.
وبين هؤلاء، يُرجح الحقوقيون، أن أعداد المساجين المعارضين وحاملي صفة اللجوء السّياسيّ أو الأمنيّ، لا يتجاوز 600 نزيل، تمّ توقيف غالبيتهم في أحداث عرسال العام 2014، أو بالدخول خلسة بعد انشقاقهم عن الجيش السّوريّ، أو بجرم الانتماء إلى تنظيمات إرهابيّة في سوريا، كقوى المعارضة أو الجيش الحرّ أو النصرة. وهم محميون بموجب اتفاقيّة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسيّة أو اللاإنسانيّة أو المُهينة (1984) الّتي صادق عليها لبنان عام 2000 وعلى بروتوكولها الاختياريّ عام 2008، وكذلك الاتفاقية الدوليّة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسريّ (معتمدة منذ العام 2010). ورأت السّلطات أن التخريجة تقع في العودة إلى الاتفاقيّة القضائيّة الموقعة عام 1951 بين سوريا ولبنان، ولا تزال ساريّة النفاذ حتّى اللحظة، وكذلك إلى قانون العقوبات اللّبنانيّ، اللذين يحددان شروط التسليم والاسترداد.
جدليّة ترحيل السّجناء
لكن الجدليّة الحاليّة، تقع إلى جانب كون غالبية الموقوفين هم من غير المحاكمين. أي لا يحقّ للدولة ترحيل موقوف من دون محاكمته بالمرتبة الأولى، إلى جانب غياب آليّة واضحة لتصنيف المساجين المحميين (معارضين أو لاجئين) بالموجب الدوليّ، خصوصًا أن موقف لبنان تجاه المعارضة السّوريّة لا يزال ملتبسًا. فهي الّتي لا تعترف حتّى اللحظة إلا بالنظام السّوريّ كمرجع للتواصل الديبلوماسيّ والتفاوض، ولا يزال أحد أحزابها وعدد ضخم من مواطنيها داخل الأراضي السّوريّة، لمؤازرة هذا النظام، عسكريًّا. وهذا الالتباس والضبابيّة، تجعل من ترحيل اللاجئين من السّجناء إلى السّجون السورية، كتوكيد على اعتراف الجانب اللّبنانيّ بشرعيّة نظام الأسد وجسمه القضائيّ والأمنيّ، ويُسهم في تعميق المفاوضات والصلات مُجدّدًا.
وفي هذا السّياق تشير المحاميّة والخبيرة في القانون الدوليّ، ديالا شحادة، إلى “المدن”، أنّه وبما يختص بالتسليم والاسترداد، فإن التسليم يقتضي طلب استرداد من الدولة الّتي تريد مساجينها، أي يجب على سوريا طلب ذلك، لا لبنان. وهذا ما هو ملحوظ في قانون العقوبات اللّبنانيّ الذي يُحدّد شروط التسليم والاسترداد، فضلًا عن الاتفاقيّة الثنائيّة بين سوريا ولبنان، وينصّ قانون العقوبات وفق شحادة، على رفض كل الطلبات المتعلقة بالاسترداد في حال تمّ التأكد من أن الاسترداد غير مدفوع بغرضٍ سياسيّ (أي استرداد معارضين سياسيين أو منشقين عن الجيش). وفي باقي الحالات، هناك لائحة من الشروط يجب استيفاؤها، قبل البتّ بالموافقة على هذه الطلبات، وأهمها معرفة وضع السجين في سوريا، وخصوصًا إذا ادعى أنّه معرض لخطر الإخفاء أو التعذيب أو الاضطهاد على خلفيّة سياسيّة، عندها فإن أي محاولة لترحيله هي خروج عن الموجب الدوليّ ومخالفة صريحة.
وتُضيف شحادة: “أما بالحديث عن مخالفة الموجب الدوليّ، فإن الدولة اللّبنانيّة، بترحيلها للاجئين من دون عرضهم على القضاء، أو إتاحة المجال لهم باستعراض وضعهم الأمنيّ في سوريا (على فرض أن ليس جميع اللاجئين معرضين لخطرٍ أمنيّ في سوريا)، فإنه انتهاك جسيم للموجب الدوليّ”.
الوضع الأمنيّ في سوريا
وخطوة الحكومة، المتمثلة بالدفع نحو ترحيل أكبر عددٍ من اللاجئين، عشوائيًّا، تتدرج ضمن محاولتها الحثيثة لإعادة التواصل مع نظام الأسد، وتلبية رغباته في إعادة الإعمار، بابتزاز المجتمع الدوليّ بهذا الملف الإنسانيّ. وتتشابه مع مطالبها الأخيرة، هي والحكومة القبرصيّة (راجع “المدن”) بإعادة تقييم الوضع الأمنيّ في سوريا، وإعلان أن بعض المناطق آمنة لعودة اللاجئين إليها. هذا المطلب الذي لا تزال متمسكة به، وتواظب على بثّه أكان في اللقاءات الدبلوماسيّة أو الاجتماعات الرسميّة، قُبيل مؤتمر بروكسل الثامن، بالرغم من تأكيدات الاتحاد الأوروبيّ على ثبات موقفه من النظام وتمسكه باللاءات الثلاث وهي: لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات، ما لم يُشارك الأسد بشكلٍ فعال في الحلّ السّياسيّ وفقًا لقرار مجلس الأمن الدوليّ رقم 2254.
وفي سؤالها عن مدى قانونيّة وعمليّة طلب لبنان بإعادة التقييم للوضع الأمنيّ في سوريا، تؤكد شحادة: “كل دولة لها الحريّة في تقييم الوضع الأمنيّ في سوريا، لكن لا يحقّ لها فرض تقييمها على أحد، فالأمم المتحدة هي المرجع الدوليّ المُحايد والوحيد، الّتي تُعد تقاريرها ذات مصداقيّة وجديّة عند الحكومات حول العالم، بدليل أن هذه التقارير يُستند إليها في القرارات الصادرة عن الحكومات الدوليّة، بما في ذلك محكمة العدل الدوليّة”.
المصدر: المدن
قد لا يعبر هذا المقال عن رأي الموقع