بينما أتولى منصب رئيس الوزراء المكلف للسلطة الوطنية الفلسطينية في ظل ظروف مؤلمة وغير مسبوقة، فإنني أدرك تمامًا التحديات الهائلة التي تنتظرنا في الأمام. الآن، يجد الشعب الفلسطيني نفسه في منعطف حرج آخر أيضًا، حيث يواجه مجموعة مأساوية من الأزمات التي تختبر قدرتنا على الصمود والإبداع، وهي صفات أثبتنا أننا نمتلكها بوفرة مرة تلو المرة.
ومع ذلك، ثمة اختلافان على الأقل هذه المرة: أن المظالم أكثر فظاعة من أي وقت مضى؛ وأنها قيد العرض على مستوى العالم كله.
في هذه اللحظة المحورية، أصبح الفلسطينيون والمجتمع الدولي أكثر حماسة وتصميمًا على إحداث تغيير حقيقي -ربما أكثر من أي وقت مضى. ولذلك يتحتم علينا أن نرسم طريقًا واضحًا إلى الأمام لوقف الكارثة الإنسانية التي تتكشف في غزة، ووضع نهاية للاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقية. لقد حان الوقت لمنحنا فرصة عادلة لتحقيق تطلعاتنا الجماعية إلى العدالة، والحرية، والأمن، والسلام والازدهار -وهي الحقوق الأساسية التي حرم منها الفلسطينيون على مدى 76 عامًا.
في مقدمة أولوياتنا تأتي معالجة الوضع القاتم الذي نشأ منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقد ترك الدمار الذي أحدثه القصف والحرمان الإسرائيليان المستمران (بالإضافة إلى سنوات من الحصار) شعبنا في غزة في حالة من الدمار، مع معاناة إنسانية تعز على التصور.
الإحصاءات مذهلة، والقصص الشخصية الكامنة وراءها مدمرة. في أقل من ستة أشهر، قتل أكثر من 30.000 فلسطيني في غزة، من بينهم 13.000 طفل على الأقل. وفي المتوسط، يفقد 10 أطفال كل يوم طرفًا واحدًا على الأقل، وقد أصبح أكثر من 17.000 طفل الآن “غير مصحوبين” أو من دون أحد الوالدين. كما أصيب ما لا يقل عن 70.000 شخص بجروح، ونزح 1.7 مليون شخص -75 في المائة من سكان قطاع غزة- داخليا. كما دُمر أو تضرر أكثر من 60 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع، وانهار النظامان التعليمي والصحي تمامًا، ووصل انعدام الأمن الغذائي والمائي إلى مستويات كارثية. لا شيء يمكن أن يبرر الجحيم الذي يعيشه سكان غزة.
ولا يمكن لأي شيء -إذا كان ذلك يهُم- أن يبرر التدهور الذي يحدث في الوقت نفسه في الضفة الغربية. مع تصعيد المستوطنين للعنف، واستمرار القيود التي يفرضها الاحتلال في جعل دفع الرواتب وعَيش حياة مستقرة أمرًا صعبًا، أصبح من المستحيل، مرة أخرى، تجاهل الأوضاع الأمنية والاقتصادية الملحة.
ثمة حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لإنهاء هذه المعاناة. ولذلك، سوف تكون أولويتنا مواصلة العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين لضمان وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وقيادة حملة إغاثة إنسانية لمساعدة شعبنا في غزة. وبالتوازي مع ذلك، نهدف إلى تأسيس وكالة مستقلة وكفؤة وشفافة لإنعاش غزة وإعادة إعمارها، وصندوق استئماني يدار دوليا لجمع الأموال المطلوبة وإدارتها وتخصيصها. يجب أن ينتهي الحصار، ويجب السماح للشعب الفلسطيني في غزة (والضفة الغربية) بالعيش والازدهار.
إن صياغة مخطط استباقي هي أمر ضروري. ولا يجب أن يعالج هذا المخطط الأزمات المباشرة التي نواجهها الآن فحسب، وإنما يجب أن يمهد الطريق أيضًا لإقامة دولة فلسطينية مستدامة ومزدهرة، وأن يسمح بممارسة الشعب الفلسطيني حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير، الذي يشكل حجر زاوية للسلام والاستقرار في المنطقة.
لتحقيق هذه الرؤية، يجب أن نجمع معًا مختلف الأطراف والأصوات الملتزمة بالمبادئ والأطر التي وضعتها منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى أساس إدراك التعقيدات الماثلة على أرض الواقع، يجب أن نقوم بتشكل حكومة تكنوقراطية غير حزبية، يمكنها أن تكسب ثقة شعبنا ودعم المجتمع الدولي على حد سواء. وسوف تدعو هذه الحكومة إلى مشاركة جميع الفصائل والأحزاب الفلسطينية في حوار بناء على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية. وينبغي أن يكون الهدف هو التوصل إلى توافق في الآراء بشأن كيفية تحقيق السلام، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتحقيق الحكم الديمقراطي لمؤسساتنا.
من بين العناصر المركزية في هذه الرؤية، ثمة إعادة توحيد مؤسساتنا وقوانيننا في جميع أنحاء غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية في ظل حوكمة متماسكة، وتسهيل التكامل الاقتصادي وضمان حرية التنقل والوصول (إلى أن يتم إنشاء رابط دائم بين المناطق الفلسطينية). وكانت هذه الرؤية تحظى دائمًا بالإجماع الدولي، باعتبارها السبيل الوحيد المقبول للمضي قدمًا نحو السلام والاستقرار الدائمين. ومع ذلك، ما يزال تنفيذها معطلًا مع أنه مستحق منذ أمد طويل.
إن الحكومة الفلسطينية القادمة مصممة على إجراء جميع الإصلاحات الداخلية اللازمة لكسب ثقة شعبنا والنجاح في الاضطلاع بالمهام الهائلة التي تنتظرنا. وسوف نجري إصلاحات شاملة، تشمل تحسين الضوابط المالية والشفافية، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية، وتعزيز سيادة القانون، وحماية استقلال القضاء، ومكافحة الفساد، ودعم حقوق الإنسان وحرية التعبير، وتمكين المجتمع المدني وهيئات الرقابة، والتحضير للانتخابات.
ولكي نكون واضحين، سوف نتبع سياسة لا تتسامح مطلقًا مع الفساد وتلتزم بشكل كامل بالشفافية. وسيكون وجود حكومة فعالة وخاضعة للمساءلة شأنًا بالغ الأهمية -ليس لحشد الدعم والمصداقية الدوليين فحسب، وإنما لتحقيق الأهم من ذلك؛ كسب ثقة شعبنا.
قد تكون الشكوك التي تستقبل إعلانات الإصلاح مفهومة بالنظر إلى تاريخ حكمنا. لكنني ملتزم بإظهار التقدم والمساءلة. وسوف تشمل التدابير التي تتخذها حكومتي تشكيل مجلس وزراء يتمتع بالمصداقية والمهنية، وإنشاء “مكتب للانتقال” مكلَّف بتحديد الإصلاحات المطلوبة وتنفيذها بالتعاون مع جماعات المجتمع المدني والمنظمات الدولية المتمتعة بالخبرة ذات الصلة، مثل “البنك الدولي”، و”برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”. وسوف يتطلب تحقيق النجاح دعمًا من المجتمع الدولي، يضمن وضع حدٍّ للسياسات التقييدية والمعوقة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية.
ثمة خطوة أساسية لاستعادة ثقة شعبنا وضمان شرعية حكمنا، هي الالتزام بإجراء انتخابات ديمقراطية. ونحن نهدف إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية على حد سواء، وهي خطوة حاسمة نحو تنشيط مؤسساتنا الديمقراطية. وسوف نناضل ونجتهد من أجل عملية ترمي إلى جعل هذه التدابير حرة، وعادلة، وشاملة. ومع ذلك، يجب أن تكون الحقائق على أرض الواقع في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية مواتية لضمان أن تكون هذه الانتخابات تمثيلية حقا.
سوف يكون تحسين الاستقرار المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتنشيط اقتصادنا مهمة بالغة الأهمية -ولكنها أيضًا مهمة شاقة بالنظر إلى اعتمادنا الكبير على المساعدات الخارجية المتضائلة، والقيود المنهجية التي يفرضها الاحتلال. ومع ذلك، فإن المشاكل ليست مستعصية على الحل. يجب إزالة القيود الإسرائيلية. وبعد ذلك، وبمساعدة المجتمع الدولي وقطاعنا الخاص، بما في ذلك في الشتات، سوف نتمكن من تنويع مصادر إيراداتنا، وتقليل الاعتماد على المعونة الخارجية، وخلق اقتصاد مزدهر وقادر على الصمود.
سوف يتطلب المضي قدمًا أفكارًا وإصلاحات جريئة، وأفعالاً حاسمة، ومشاركة، وشفافية، وبراغماتية. لقد حان الوقت لكي تنتهي معاناة الفلسطينيين أخيرًا. إننا شعب قوي وقادر، ولكن لا يمكننا أن نفعل هذا وحدنا. لا غنى عن دعم المجتمع الدولي وشركائنا الإقليميين لتعزيز السلام والأمن والاستقرار والرخاء، للفلسطينيين والمنطقة. لقد حان الوقت الآن لتحرير فلسطين -مرة وإلى الأبد.
*محمد مصطفى Mohammad Mustafa: رئيس الوزراء المكلف للسلطة الوطنية الفلسطينية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A path to peace
——————————
هامش المترجم:
لمحة عامة:
محمد عبد الله محمد مصطفى “السفاريني”، “أبو مصعب”: هو سياسي، واقتصادي، ورجل دولة فلسطيني، ولد في 26 آب (أغسطس) 1954 في قرية كفر صور في محافظة طولكرم، حيث سفارين بلدة والده في حين أن كفر صور هي بلدة والدته.
كلفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 14 آذار (مارس) 2024 بتشكيل الحكومة الفلسطينية التاسعة عشرة، وهو عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس الدائرة الاقتصادية بالمنظمة، ومستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية، ورئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني.
كان قد شغل منصب نائب رئيس الوزراء الفلسطيني للشؤون الاقتصادية في الحكومة الفلسطينية الخامسة عشرة في العام 2013، وشغل المنصب نفسه في الحكومة الفلسطينية السادسة عشرة في العامين 2013 و2014، كما شغل منصب نائب رئيس الوزراء الفلسطيني ووزير الاقتصاد الوطني في الحكومة الفلسطينية السابعة عشرة (حكومة الوفاق الوطني) في العام 2014 وحتى تقديمه استقالته منها في العام 2015.
قبل ذلك، كان أستاذًا زائرًا في جامعة جورج واشنطن في العام 1991.
ومنذ العام 1991 وحتى العام 2005، شغل العديد من المناصب العليا في البنك الدولي في واشنطن، حيث عمل في البنك في إدارة الصناعة والطاقة لمنطقة إفريقيا ثم في قسم أوروبا الشرقية، ثم في إدارة البنية التحتية والخصخصة لمنطقة الشرق الأوسط، وأسهم خلال هذه الفترة في تطوير العديد من شركات الاتصالات، مثل شركتي أورانج وفاست لينك في الأردن، وشركة الاتصالات السعودية، وشركات أخرى في مصر ولبنان وأفريقيا وبلغاريا وروسيا.
عمل مستشارًا للإصلاح الاقتصادي لدى حكومة الكويت، ومستشارًا لصندوق الاستثمارات العامة في السعودية. وفي العام 1995، عاد إلى فلسطين بشكلٍ مؤقت عقب توقيع اتفاقية أوسلو، حيث أمضى عامًا ونصف في المساهمة بتأسيس قطاع الاتصالات في فلسطين، فكان رئيسا تنفيذيا مؤسِّسا لشركة الاتصالات الفلسطينية “بالتل” بين العامين 1995 و1996، ثم عاد بعد ذلك للعمل في البنك الدولي في واشنطن.
في العام 2005، أقام بشكل دائم في فلسطين بعد أن كلفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمنصب مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية في ديوان الرئاسة الفلسطينية اعتبارا منذ 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005. (المصدر: ويكيبيديا)
المصدر: (الإيكونوميست) / الغد الأردنية
محمد عبد الله محمد مصطفى “السفاريني”، “أبو مصعب” سياسي، واقتصادي، ورجل دولة فلسطيني، والمكلف برئاسة الحكومة الفلسطينية التاسعة عشر، خبرة وإمكانيات جيدة، ولكن ماذا سيسنطيع تقديمه ضمن وضع الإحتلال وأجهزة يسودها الفساد والمحسوبية؟.