عيسى الشيخ حسن روائي سوري متميز ومثابر، منتمي للثورة السورية، قرأت له رواية خربة الشيخ احمد وكتبت عنها…
العطشانة روايته الجديدة من إصدار مؤسسة جدار، وهي استمرار بشكل ما في الحفريات المعرفية عن قرية “نموذج” في منطقة الجزيرة السورية خلال عقود، بدءا من السبعينات من القرن الماضي، مستعيدا بذلك تاريخ حياة عاشها أهل الجزيرة وتغيرت بعد ذلك جرّاء موجة التعليم والمواصلات وحضور التلفزيون والغربة والجفاف.. الخ. كما هو حال كل سوريا في قراها ومدنها…
العطشانة تلك القرية المزروعة في الجزيرة السورية ، التي تكاد تكون منقطعة عن غيرها من القرى والبلدات والمدن لولا تواصل من اجل تلبية احتياجات ضرورية غير متوفرة فيها. فهي قرية زراعية يعمل كل أهلها في الزراعة، خضار وحبوب، وتعتمد على مواسم الأمطار، وهم متعلقون بشدة بالمطر يتوسمون بنزوله الخير، ويبدؤون بزرع محاصيلهم البعلية، يعتمدون على المياه التي ينضحونها من آبارها التي كانت بعمق أمتار لتصل الى المئات ما قبل الجفاف الذي أصاب المنطقة كلها بعد عقود. كانوا يعتمدون في زراعتهم على الحيوانات في الفلاحة والزراعة، لكن أحدهم التقط ضرورة استعمال الجرار الزراعي في استعمالاته المتعددة، زراعة ونقل وغير ذلك، اقتنى جرار وعمل به لنفسه ولغيره بأجور متوافق عليها، حيث دخلت المكننة الزراعية الريف السوري…
في القرية شيخ يمثل جماعة صوفية وله جلسات الورد والحضرة والصلاة على النبي. فيها بقايا كتاتيب لتعليم الاطفال القراءة والكتابة بدء من تحفيظ القرآن، والتي انزاحت من الطريق لافتتاح المدارس الحكومية التي بدأت تعلم الأطفال وفق المنهاج المقرر من الدولة. لكن التزام الأطفال بالتعليم محدود، وغير مضبوط، فهم أبناء القرية وقد ينشغلون مع اهلهم في المواسم الزراعية ومع ذلك التزم بعضهم وتعلم واستمر في التعلم. قد يتجاوز المرحلة الابتدائية، ولكن اغلبهم يتوقف عندما يصل لسن السادسة عشر ويستلم الهوية ويهيئ ذاته للدخول الى الجيش، والعودة للقرية ليتزوج ويبني اسرة تسير على خطا أهله وأسلافهم يعمل في الأرض ويعيش كفافه…
اهل القرية متضامنون في كل المواقف وبكل المناسبات، وهم كذلك مع القرى المجاورة لهم. في المصائب يتحول بيت الميت “مثلا” موئلا لكل أهل القرية يقومون بواجب العزاء واستقبال المعزين وتأمين المأكل والمشرب والضيافة طيلة أيام العزاء ولو امتدت لأشهر. لا تترك اسرة مصابة بموت عزيز لوحدها في مصابها. كذلك الحال في الزواج حيث موسم الصيف وجني المحصول يعني ان يجمع الأب نقود تزويج ابنه من فتاة بالقرية ويكون الزواج موسم للفرح الجماعي، الكل يقدم هديته لأهل العرس ويحضرون ليأكلوا من طعام العرس الوفير الغزير، يتوالى مجيء المباركين محملين بأكياس السكر والاغنام وغير ذلك، فكل عليه دين يوفيه في مناسبته. نادرا ما يحصل خلاف جدي بين اهل القرية حول أي موضوع، وان حصل فهناك شيخ القرية ووجهاءها يقومون بدورهم بالصلح و إرضاء كل الأطراف. في كل بيت قطعة سلاح او اكثر، لمواجهة أي احتمال يحصل في الحياة، تظهر هذه الأسلحة في الاعراس وتطلق بعض من عياراتها النارية. الجديد على القرية المعلمون الذين يأتون لتعليم الأطفال لسنوات ينزرعون في القرية ووجدان اطفالها وأهلها، يغادرون وسيرتهم تبقى وراءهم لسنين…
الدولة تكاد تكون غائبة وإن حضرت من خلال رئيس المخفر وبعض الشرطة يكون لهم هيبتهم، وتقدم لهم الولائم ويفضل اهل القرية ان يحلون مشاكلهم بذاتهم. ينأون عن الدولة وكل ما يتعلق بها…
تكاد تكون القرية منغلقة على ذاتها، تتواصل للضرورة مع القرى المجاورة لتلبية حاجات متبادلة، وقد يذهب البعض الى حلب او دير الزور ليبتاعوا ما يحتاجونه خاصة في افراحهم، كما يأتي اليها البائع المتجول يحمل كل ما يعتقد ان اهل القرية يريدونه، يشترون منه ويكرر عودته بشكل دوري خاصة بعد المواسم حيث يكون لدى اهل القرية وفر من المال يصرفوه لشراء ما يحتاجون.
بعض ابناء القرية ولأسباب مختلفة يغادرون القرية دون رضى اهاليهم، ليبدأوا حياة جديدة، تكون لهم أفقا مختلفا عن الحلقة المغلقة في القرية التي لا جديد فيها. يصلون الى حلب ولبنان .. الخ ، يعملون في الاعمال الدنيا خاصة أعمال البناء، يجمعون ما يتوفر لهم ليعودوا يوما ويتزوجون ويبنون حياتهم في قريتهم. يرسلون المراسيل لأهاليهم عبر القادمين للقرية للزيارة أو بعد انتهاء غربة أحدهم. وتنعقد جلسات قراءة الرسائل والتي يقوم بها أطفال القرية النبهاء الذين تعلموا فك الحرف في المدارس بعد أن كانوا سابقا قد تعلموا ذلك من قراءة القرآن وحفظه في الكتاتيب…
المرأة في القرية سيدة بيتها، ومع زوجها يشكلان عماد البيت، كلهم يعملون، الفلاحة كمهنة لا تعفي احد من العائلة من العمل، في الأرض وتربية المواشي والحصيد وفي اشغال البيت كاملة. ولأن أجواء القرية مفتوحة بين كل أهلها. فغالبا ما يتعارف الأطفال ذكورا واناثا منذ الصغر ويختار كل منهم ومنهن شريكه وتأتي المواسم الخيّرة يكبرون، ويتزوجون، لذلك تكون زيجاتهم ناجحة وحياتهم مقبولة و تكتنفها السعادة…
الغصة الوحيدة التي تكتنف واقع المرأة في القرية هو عدم السماح لها بالتعلم -ان تعلمت- لما بعد المرحلة الابتدائية، بالطبع باستثناء البعض منهن. وذلك صونا للعرض وان الفتاة عليها ان تتقن امور البيت من امها لانها ستبني أسرة يوما ما. الفتاة مستقبلها الزواج وبناء اسرة…
القرية بعيدة عن الشأن العام وما يحصل في البلاد، نعلم أن أحدهم كان في الجيش أيام هزيمة حزيران عام ١٩٦٧م. غير ذلك لا نجد علاقة للقرية مع الدولة التي هي جزء منها. الا من خلال المعلمين المبتعثين للتدريس في مدارس صغيرة متواضعة، وعبر الشرطة الذين يحضرون لحل مشكل استعصى على أهل القرية وهذا نادر او بعض التبليغات للالتحاق بالجيش للشباب عندما يصلون إلى سن الالتحاق بالخدمة الإلزامية…
القرية شهدت ككل سوريا تراجع منسوب المياه الجوفية وقلة الأمطار، حيث يخرج الناس للاستمطار في طقس شبه متميز فيه دعاء ولبس الملابس بالمقلوب وكثير من الابتهال. وعندما يأتي المطر تأتي معه البشرى كعيد. كانت القرية تتعامل مع نقص المياه الجوفية بإمكانياتها الذاتية، وبدأت بحفر الآبار الارتوازية العميقة. التي يستخرج منها الماء عبر محركات كهربائية أو تعمل على الديزل ليعيدوا دورة حياتهم الزراعية التي كانوا يعيشون عليها. لكن جاء وقت نضبت به حتى المياه الجوفية ككل سوريا…
وعلى ذكر العيد فإنه مناسبة لإعادة خلق الود بين الجميع. حيث تقام موائد العيد الجماعي بحيث يتبرع كل اهل القرية كل بقدر امكانياته لمن يولم للكل ، فيأكل دون حرمان لاي من اهل القرية ودون امتياز او فرق بين فقير وغني… كما ان هناك من يذهب الى الحج وعاد وتحدث عن ذهابه الى مكة والمدينة وما عاشه هناك…
تنتهي الرواية عندما يختم احد أبناء القرية توثيق تطور حياة قرية العطشانه على كل المستويات تقريبا.
توثيق للتاريخ حتى لا يندثر ماضينا إن لم نوثقه…
في التعقيب على الرواية اقول:
بداية اقول انني عشت مع واقع حياة أهل العطشانة وكأنني أعيش مع واقع بلدتي التي تشبه العطشانة كثيرا. تفاعلت بعمق، استرجعت حياة عشتها لعقود في ريف دمشق، وأدركت أن أغلب ما عاشه الريف السوري متقارب بنسبة كبيرة، وأننا في الأرياف السورية كنا نحارب الطبيعة لنستخرج منها أسباب الحياة…
كنا نعتمد على الوسائل البدائية في الفلاحة وعمر بعضها -مثل المحراث- الآلاف من السنين، وكيف جاءت الآلات الحديثة جرارات وحصادات وميكنة زراعية حصل على أثرها ثورة زراعية على مستوى سوريا كلها. لكن ذلك كان كارثة حيث غياب الترشيد في استخراج الماء وفي استعماله في الزراعة الموسمية والأشجار. وكان من نتائج ذلك ازدهار نباتي كبير في ثمانينات القرن الماضي وما بعده، لكن ذلك أدى بعد حين الى استنزاف الثروة المائية الجوفية. وجفت الآبار وحتى بعض الينابيع التي عمرها آلاف السنين. وتحولت الأراضي المزروعة وأشجارها أرض يباب يابسة تبكي على نفسها وأهلها وضياع تعبهم عبر عقود، وحتى مستقبل الزراعة لمئات السنين القادمة…
من المسؤول ؟. حديث طويل… لكن لا بد من توضيح أن الفلاح يريد ان يعيش وهذه أرضه وفرص الاستفادة منها هي المتاح الوحيد امامه. البعض كان يبيع بعض أرضه حتى يحفر بئرا ارتوازيا في أخرى. كانت الدولة تمنع رسميا الحفر.؟!!. وتسمح بذلك عبر الفساد والرشوة الكبيرة جدا لتعود مبالغ طائلة على جيوب مسؤولين كثر. والنتيجة غارت المياه وعاشت سوريا خاصة في الجنوب السوري دمشق وريفها ودرعا وما حولها. جنازة للزراعة و عزاء كبيرا بأرض تبكي أهلها. وهل ينظرون لتعبهم وكيف تذروه الرياح…؟!!.
لماذا قامت الثورة السورية…؟.
لألف سبب وسبب… منها وأهمها السياسة الزراعية للنظام المستبد الظالم للشعب السوري…
كل الحكايا تقودنا ان ثورتنا كانت ضرورية وحتمية وان شعبنا يحتاج ان يعيد بناء حياته بشكل صحيح يسقط الاستبداد والفساد ويبني دولة تحمي كرامة الناس وتؤمن لهم فرص الحياة الكريمة والعدالة والحرية والديمقراطية وطريق واضح نسلكه نحو حياة أفضل لنا كلنا أبناء الشعب السوري…
رواية “العطشانة” للروائي السوري “عيسى الشيخ حسن” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن قرية “العطشانة” بالجزيرة السورية وشيخ القرية المتبع للطريقة الصوفية، واسلوب الزراعة و.. ، يقولون لماذا كانت الثورة السورية؟ أهمها السياسة الزراعية للنظام المستبد الظالم للشعب السوري،ولنبني دولة الحرية والكرامة دولة المواطنة تؤمن الحياة الكريمة والعدالة لشعبنا .