يتناقل كثيرون في دولة الاحتلال الإسرائيلي ودول الغرب هذه العبارة: “إنها حرب نتنياهو” التي لا يريد أن يضع موعداً لإنهائها. وليس مردّ ذلك أنه من أعطى الأوامر بقصف قطاع غزّة براً وبحراً وجواً، عشية 7 أكتوبر، ثم أتبعها بعد أيام بالغزو البرّي، فحسب، بل لسببٍ يعود إلى تاريخ يسبق تلك الليلة بكثير، حين امتنع عن المضيّ بمسار حلّ الدولتين، واستعاض عنه بسياسة الحصار والحروب الدورية على غزّة، وبسياسة الاستيطان في الضفة الغربية وإضعاف السلطة الفلسطينية، حتى لم يبقَ لها سوى دور واحد، هو التنسيق الأمني مع الإسرائيليين لوأد أي عمل مقاوم ضد احتلالهم. وفي المحصلة، يبدو لكثيرين أن نتنياهو سيطيل هذه الحرب، من أجل إرضاء غروره ونزواته وتحقيق مصالحه، مهما بلغ عدد الضحايا والخسائر، ومهما بدت الأهداف التي طرحها صعبة التحقق. ولم ينتظروا كثيراً حتى أكّد لهم، قبل أيام، أنها ستستمر خلال سنة 2025 أيضاً، مع عدم معرفتهم ما إذا كان سيوقفها مع انتهاء تلك السنة.
للتأكّد من أن هذه الحرب التي شنتها دولة الاحتلال على غزّة، وتجاوزت مدّتها أكثر من مائة يوم، قد أصبحت حرب نتنياهو، يمكننا ملاحظة الطريقة التي استغلها فيها نتنياهو وحوّلها لتصبح حرباً بلا أفق، حين طرحت حكومته، منذ لحظات الحرب الأولى، أهدافاً غير قابلة للتحقيق، منها القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى الإسرائيليين والسيطرة على غزّة وفق رؤيته لما بعد الحرب، مع تحقيق غاية تجريد القطاع من السلاح لمنعه من تشكيل خطرٍ على الكيان في المستقبل. كما رفض الاستجابة لدعوات وقف الحرب، علاوةً على خلافاته المتواصلة مع أعضاء مجلس الحرب بشأن مجرياتها وشكلها ومدّتها واليوم التالي لها. وبينما يقول إسرائيليون إن حكومة نتنياهو قد وفَّرت الشروط والفرصة لحركة حماس لكي تنفِّذ عملية طوفان الأقصى، عندما كان أقطابها يتصارعون، وكان رئيسُهم يحاول تمرير الإصلاحات القضائية، لكي ينجو بجلده من المحاسبة على فساده، يقول فلسطينيون إن نتنياهو الذي يسعى إلى التطبيع مع العرب وتوقيع معاهدات سلام مع الدول العربية والإسلامية عمل عقديْن على نسف عملية السلام معهم.
أمّا مقوّمات الحرب، وكذلك العمليات المشابهة لعملية طوفان الأقصى، فقد بقيت ماثلةً من اللحظة التي عمل فيها نتنياهو على تقويض الأسس التي يمكن أن تساعد في عملية السلام، حين دمّر السلطة الفلسطينية وضرب مؤسّسات المجتمع المدني والاقتصاد الفلسطيني، وأفشل المؤسسات التعليمية والثقافية والمنظمات غير الحكومية التي تدعِّم أسس الدولة الفلسطينية التي يمكنها المضي بعملية السلام. وخلال ذلك الوقت، صادرت حكوماته المتتالية الأراضي الفلسطينية وزرعت المستوطنات فوقها، وواصلت بناء الجدار العازل الذي جعل الضفة الغربية جُزراً متناثرة لا رابط بينها، ووضع نُصبَ عينيه تحقيق هدف واحد، ألا يتبقى للفلسطينيين أرض تكون أساساً لدولة وفق رؤية حلّ الدولتين. وبينما قال نتنياهو قبل عشر سنوات ما مفاده إن هنالك إجماعا يتبلور في إسرائيل أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام، كان هو من يسعى إلى الوصول إلى هذه الحال، واستمرّ يعمل من أجل تكريسها في السنوات التي تلت. وفي كل ممارساته خلال تلك الفترة الطويلة، ظهر للجميع أن لا خطط لديه للتعامل مع الفلسطينيين سوى خطط الحرب والاستيطان والتهجير، فكانت هذه الحرب الجديدة التي يشنّها على الفلسطينيين، والتي أكملت شهرها الثالث، والمخطّط لها أن تستمر أكثر.
مع التقرير الذي نقلته القناة 12 التلفزيونية الإسرائيلية قبل أيام، وأوردت فيه كلام نتنياهو خلال لقاء جمعه وأعضاء مجلس الحرب مع رؤساء المجالس المحلية في النقب الغربي القريبة من غزّة، في 16 يناير/ كانون الثاني الجاري، وقال فيه: “وفقاً للتقييمات الحالية، قد تستمرّ الحرب خلال سنة 2025″، يتأكّد للإسرائيليين أن نتنياهو يريد شنّ حربٍ طويلة وربما أبدية لا نهاية لها. ووفقاً للشروط التي وضعها نتنياهو من أجل إنهاء الحرب، فإن توقعات استمرارها إلى سنة 2025، والسنوات التي تليها، تُعدّ منطقية. ويعود السبب في ذلك إلى أن السيطرة على غزّة، وإخضاع المدنيين والمقاومين، ثم الشروع بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية أو غيرها، أهداف تتطلّب سنواتٍ طويلة، ما يجعل وقف الحرب مهمّة مستحيلة خلال سنوات. وخلال هذه الفترة، سيكون نتنياهو قد ضمن التغييرات القضائية التي يحلم، هو واليمين الديني المتطرّف، بتنفيذها، ويكون أيضاً قد وجد فتوى ما تُخرجه من ورطة المحاكمة، وربما أمّنت له حصانة مدى الحياة، أو تغيّرت نظرة الجمهور الإسرائيلي إليه، وهي مهماتٌ يستحيل تحقيقها في زمن قصير، تماماً مثلما تصعُب تنحيته وتغيير حكومته لنزع الحصانة عنه حين تكون الحرب قائمة.
هل يمكن أن يتحوّل نتنياهو إلى ديكتاتور؟ إذا لم يتحوّل عبر التعديلات القضائية التي تسعى إلى خنق المحكمة العليا وتحيل إلى السلطة التنفيذية صلاحياتٍ أوسع تضمن لها قراراً أقوى، وتعطي لرئيسها حصانةً وتقوي تحالفه مع اليمين الديني المتطرّف، إن لم يتحوّل عبر ذلك إلى ديكتاتور فإن الحرب الطويلة كفيلة بأن تضمن له ما يريده في هذا الإطار. ومن الإشارات على ذلك رفضه بنوداً في الرسالة تضمنت مطالب أعضاء مجلس الحرب، ومنها تغيير أهداف الحرب وأولوياتها، خصوصاً دفع هدف تحرير الأسرى ليصبح البند رقم 1 على سلم الأولويات، بدلاً من هدف القضاء على “حماس”، وهو ما يمكن أن يؤجّج الخلاف والحساسيات أكثر داخل هذا المجلس، ويُحدث انقسامات خارجه، خصوصاً أن “حماس” ترفض الخوض فيه قبل وقف الحرب.
وفي السياق الطويل الذي يخطّطه نتنياهو للحرب، لكي ينجو بجلده، قد تظهر تداعياتٌ جديدةٌ غير محسوبة على الكيان الإسرائيلي، ليس أقلّها التوتر الدائم بين أعضاء مجلس الحرب، وازدياد الاستقطاب الشديد والقائم في الشارع الإسرائيلي، إضافة إلى خروج احتجاجاتٍ مطالبة برحيله بسبب عدم تحقيقه أهداف الحرب. احتجاجاتٌ لا يُعرَف إلى أي هاويةٍ يمكن أن تدفع الكيان، مع استعداد مليشيا اليمين المتطرّف الوليدة في المستوطنات لمواجهتها وقمعها، وبالتالي، إدخال البلاد في قلاقل أمنية، قد تكون شرارةً لحربٍ أهلية. كما قد تظهر التداعيات على المنطقة؛ فقد يتوسّع الصراع وتدخل فيه قوى لم تكن في الحسبان، قوى ترى في الحرب على غزّة تهديداً لكياناتها، علاوة على القوى التي ترى في نصرة أهل غزّة واجباً مقدّساً. ولأن الولايات المتحدة والدول التي تحالفت معها لضرب اليمن قد دشّنت لتوسيع الصراع في المنطقة، فإن نتنياهو السعيد بإطالة أمد الحرب على غزّة سيكون أكثر سعادة حين يلتفت الجميع إلى الحرب الجديدة ويتركونه متفرّغاً لحربه.
المصدر: العربي الجديد
حرب متوحشة بلا أفق تشنها قوات الاحتلال الصhيوني على غزّة، ولأكثر من مائة يوم إنها حرب نتNياهو بطريقة إدارتها واستغلالها لأجندته الخاصة للهروب من استحقاقات تلاحقه وgتحقيق انتصارات وهمية لمساعدته فيها ،