ما يفرقهما أكثر مما يجمعهما انطلاقاً من التنافس على النفوذ في المنطقة والسعي إلى تصدر المشهد والإمساك بأوراق الحل.
للمرة الثانية خلال شهرين تعلن طهران ومن دون أي مسوغ إلغاء زيارة رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي إلى العاصمة التركية أنقرة. في مؤشر يحمل كثيراً من الدلالات على حال من التوتر بين البلدين على خلفية عديد من الملفات الإقليمية، لا تقف عند الخلاف حول آلية التعامل مع مستقبل المسألة الفلسطينية في اليوم التالي للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولا تنتهي عند التفجير الانتحاري المزدوج الذي قام به تنظيم “داعش” في مدينة كرمان الإيرانية وأدى إلى سقوط أكثر من 100 قتيل.
وإذا ما كانت الذريعة التي حاولت طهران تسويقها لأسباب قرار إلغاء زيارة رئيسي الثانية إلى تركيا تعود إلى حصول تفجير كرمان، فإن أسباب إلغاء الزيارة الأولى التي كانت مقررة في الـ28 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ما زالت في دائرة الغموض أو يمكن القول إن طهران لم تجد نفسها مجبرة أو مضطرة إلى تقديم تسويغات لقرارها أو الكشف عن الأسباب الحقيقية لذلك، على ما في ذلك من مؤشرات إلى تصاعد التوتر بين الطرفين، بخاصة أن زيارة رئيسي الأولى كان قد أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه بعد اللقاء الذي جمعهما على هامش القمة العربية – الإسلامية التي استضافتها العاصمة السعودية الرياض حول الحرب في قطاع غزة.
وعلى رغم أن الزيارتين المفترضتين للرئيس الإيراني كانتا تحت عنوان تنسيق مواقف البلدين حول قطاع غزة ومستقبل الحل في فلسطين، ومحاولة التوصل إلى نقاط مشتركة لتنسيق الخطوات التي تسهم في جر إسرائيل للقبول بوقف إطلاق نار دائم، فإن هذه الأهداف قد تكون الدافع وراء الإلغاء على رغم حاجة طهران إلى توسيع دائرة مشاوراتها وتنسيقها مع دول المنطقة المعنية بهذه الأزمة وتداعياتها ومستقبلها.
لكل طرف من الطرفين مصالحه الاستراتيجية الخاصة وآلية توظيف الحرب على غزة ومستقبلها أو ما بات يعرف باليوم التالي للحرب، وما يفرقهما أكثر مما يجمعهما أو يقرب بينهما، انطلاقاً من التنافس والصراع على النفوذ في المنطقة وسعيهما إلى تصدر المشهد والإمساك بأوراق الحل أو مفاتيحه عند الجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض، وهو صراع يأخذ تارة شكلاً علنياً كما في سوريا وأذربيجان ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وتارة بالضرب تحت الحزام كما في أفغانستان وسوريا وما تتحدث عنه طهران من دور سلبي تاريخي لعبته ولا تزال تلعبه أنقرة في تأمين مظلة للجماعات المتطرفة التي عادت إلى تفعيل أعمالها الإرهابية في سوريا والعراق وداخل إيران.
لا شك أن كلا البلدين، أي إيران وتركيا، يعلن وقوفه ودعمه حركة “حماس” في فلسطين، إلا أن منطلقات كل منهما تختلف عن الآخر. فالدعم الذي تقدمه القيادة التركية إلى “حماس” لا يخرج عن اعتبارها جزءاً من تنظيم جماعة الإخوان ما دامت مواقف هذه الجماعة كانت متسقة ومنسجمة مع المواقف التركية في التعامل مع الملفات الإقليمية، وقد برزت بصورة واضحة خلال ما سمي الربيع العربي.
إلا أن هذا – وبحسب اعتقاد طهران – لم يمنع أنقرة من التضييق على قيادات “حماس” في تركيا وخارجها في اللحظة التي قرر فيها الرئيس أردوغان إعادة ترميم علاقاته مع الدول العربية بخاصة الدولة المصرية، وبما يخدم مسار التقارب الذي بدأه عام 2020 مع الحكومة الإسرائيلية، في حين ترى القيادة الإيرانية أن علاقتها مع “حماس” تنطلق من بعد استراتيجي مفتوح على مختلف أشكال الدعم السياسي والمالي والعسكري، مما يوفر لها الأرضية للعب دور أكبر وأكثر فاعلية في الأزمة التي تعيشها المنطقة.
وتأتي ترجمة ذلك كما تقول طهران، عندما فشلت أنقرة في التوصل إلى عقد هدنة بين تل أبيب و”حماس” وإجراء عملية تبادل للأسرى بينهما، في حين أن التنسيق الذي تقوم به طهران مع أصدقائها من الدول العربية سمح لها بلعب دور بتسهيل إعلان الهدنة الأولى واليتيمة بين تل أبيب و”حماس” إلى جانب دولتي قطر ومصر، وقد استطاع وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان أن يوسع دائرة هذه الهدنة لتشمل الجبهة الشمالية مع لبنان في الزيارة السريعة التي أجراها إلى بيروت عشية إعلان الهدنة لإبلاغ حليفه اللبناني “حزب الله” بتفاصيل الصفقة والحصول منه على التزام بوقف إطلاق النار الموقت.
ومن بوابة التباين في المواقف حول الحرب في غزة ومستقبل فلسطين وآليات الحل المرتقبة تتوسع الدائرة لإمكانية تصاعد الخلافات بين الطرفين في المستقبل، بخاصة أن كثيراً من مساحات التشابك في المصالح على أكثر من ساحة إقليمية ما زالت عالقة بينهما، من ثم قد تحمل في طياتها إمكانية تباعد على خلفية صراع المصالح والأهداف الاستراتيجية، فإذا ما كان الطرفان يلتقيان على دعم حركة “حماس”، وكذلك على هدف واحد في سوريا يقوم على ضرورة انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد، بناءً على رؤية تركية تعتقد بدور واشنطن في حماية الانفصاليين الأكراد والسعي إلى إقامة حكم ذاتي لهم على طول حدودها الجنوبية، فإن هذا الانسحاب بالنسبة إلى طهران يصب في إطار استراتيجيتها التي أعلنها المرشد الأعلى بإخراج هذه القوات من العراق وسوريا وغرب آسيا لاستكمال مشروعها الإقليمي وتعزيز المحور الذي تقودهم في المنطقة.
إلا أن الخلاف بينهما – تركيا وإيران – الذي قد يصل إلى صراع مفتوح يدور حول مستقبل الوجود التركي داخل الأراضي السورية الذي تعتبره طهران احتلالاً كما الوجود الأميركي، بخاصة بعد فشل كل المساعي التي بذلتها طهران بالتعاون مع موسكو للتوصل إلى تفاهمات تسمح بحصول تقارب بين أنقرة ودمشق.
زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأخيرة إلى تركيا، وحزمة الإغراءات التي حملها معه وبحث مستقبل الدور التركي في عملية الحل المقترحة أميركياً لمستقبل المسألة الفلسطينية وحركة “حماس”، من المتوقع أن تدفع طهران إلى مزيد من التشدد في التعامل مع الطموحات التركية التي تهدد مصالحها الإقليمية، باعتبار أن أي دور تركي في الحلول المستقبلية، بخاصة ما يتعلق بفلسطين سيكون على حساب مصالحها ودورها، وهو ما قد يعيد فتح الشهية التركية على إعادة تحريك ملفات أخرى تشكل تحدياً للطموحات الإيرانية من آسيا الوسطى وصولاً إلى الشرق الأوسط.
المصدر: اندبندنت عربية