خليل صويلح روائي سوري متميز، حاز على جوائز أدبية عديدة، هذه روايته الثانية التي أقرأها له. (عزلة الحلزون) رواية تعتمد أسلوب المتكلم على لسان الراوي الذي هو الكاتب نفسه.
يتحدث الكاتب عن نفسه في زمان الرواية نفسه في عام ٢٠١٨م ما قبل وما بعد. يعيش الكاتب في دمشق، ويعمل في التدقيق والتصحيح اللغوي في احدى الدور التراثية في حي البرامكة، كما يعمل مدققا لغويا في أحد المواقع الالكترونية، المتواجدة في البناء الزجاجي على استراد المزّة. يعيش الكاتب في شقته وحيدا (يعني غير متزوج وليس لديه اسرة)، لقد كانت لديه عشيقة سابقة اسمها ثريا الصباغ، تركته وقررت ان تهاجر، كتبت ملفا ضخما وقدمته إلى إحدى الدول الأوروبية، تتحدث بها عن نفسها أنها مناضلة ومظلومة وأنها كانت ذات نزعة مثلية جنسيا؟!!. حصلت على اللجوء غادرت حياة الكاتب و منزله بعدما قالت له عش في قوقعتك مثل حلزون معزول، هاجرت وترجمت ملفها بعدما حولته الى رواية، وتحولت إلى كاتبة من ضحايا الحرب السورية؟!!.
يعيش الكاتب في وحدته مع استرجاع جذوره العائلية الى أجداده السابقين، يعود إلى جذوره البدوية الموغلة في القدم، أجداده الذين يصنعون لهم مجدهم عبر قصصهم عن ذواتهم، أجداد يعودون الى جذور قبائلية قادمة من مكة، وأحيانا يرى أن جذوره تعود الى جد قادم من الشمال مع الهجمات التي طالت بلادنا من المغول والتتار، لكن الأصل البدوي يراه مناسبا أكثر له، يعيش مع أجداده وبطولاتهم في الصراع مع الآخرين وفي الغزوات، البعض يعيش عاشقا ويموت بعشقه، والبعض كان يغزو ويأتي بالنساء والجمال والمواشي. يسترجع احد ابناء اعمامه الذي اُرسل ليكون عسكريا تشد العائلة به عضدها، واصبح مقربا من احد الضباط الذي سيكون له قوة وسلطة بعد إحدى الانقلابات في سورية، ولكنه سيسقط مع ضابطه الذي سقط على اثر انقلاب آخر، هذا القريب سيستفيد من سلطة الضابط الذي يخدمه ويحصل على مكتسبات ومصالح ويقوم بالتهريب وتسيير مصالح الكثيرين، استطاع تكوين ثروة كبيرة. كذلك أحد اقربائه المسمى سرحان الذي أصبح احد الضباط وحصل على مكتسبات كثيرة ضمن الدولة، والآخر سقط كما صعد دون تفسير الا تبادل مواقع القوّة داخل السلطة.
لا يتحدث الكاتب عن واقع سورية العام، يمر عابرا على حواجز عسكرية يمر عليها وهو يتنقل بين بيته ومراكز عمله.
يتحدث الكاتب مفصلا عن كثير من الكتب التراثية التي يعيد تدقيقها من أجل طباعتها، يسترجع من خلال الكتب التي يراجعها، الكثير مما حصل تاريخيا، مثل كتب ابن رشد فيلسوف العقلانية الاسلامي، وما حصل معه في الاندلس ورحلة عذابه، تقبّل أفكاره في مرحلة ورفضها في مرحلة. ومن ثم اضطهاده، وسجنه ومعاقبته. يراجع الكثير من الكتب التراثية الاخرى، الجاحظ وكتابه الحيوان وحياته ايضا، وغيرها من الكتب التي تحتاج للتحقيق ومن ثم نشرها.
رهام سمعان فتاة تأتي اليه في مركز عمله، تقتحم عليه عزلته وتفرض نفسها عليه. ويصبحا بعد ذلك عشيقين يعيشان حياة مفتوحة جنسيا. رهام فتاة توفي والدها مبكرا حيث كان يساريا، اعتقل وعذب ومات باكرا، عاشت طفولتها في كنيسة وكانت تفكر أن تكون راهبة، لكنها غادرت بعد مضايقات وتحرشات، تعرفت على الكاتب وبدأت معه رحلة الجسد ومتعه، تعمل في مركز ترجمة وتعيش الحياة على ان الأهم فيها ملذات الجسد ويجب أن نعيشها دوما. كانت رهام واحة الكاتب الجنسية كل الوقت، في بيتها أو بيته.
أما عمل الكاتب الثاني فكان مدققا لغويا في موقع الكتروني، كان له مكتبه الذي يعمل به أوقات عمله. كان يغتاظ من رئيس التحرير الذي لا يفقه في امر عمله شيئا، لكنه كان على علاقة وثيقة مع رجال الأمن ويدبج لهم التقارير دائما، ويكتب ما يودون أن يعمم، يرسلون له تباعا توجيهاتهم عن واقع البلد. كما يودون أن تظهر للآخرين.
كان يقضي الكثير من وقته الفارغ في حانة يجتمع بها (الديناصورات) السابقين من السياسيين الخارجين من السجون والمهزومين بتجاربهم السابقة، المفجوعين بما آلت اليه حياتهم، يجتّرون تجاربهم السابقة، وبعضهم يتحدث عن اعتقاله وامجاده، كان من بينهم صديقه غاندي كاز الذي يعيش حياته بين الحانة وسينما الاهرام، التي كانت تباشر عروضها السينمائية الدائمة وتمرر بينها افلاما وعروضا جنسية (بورنو)، غاندي يدمن التردد الى هذه السينما وينام فيها احيانا، كانت مكانا للتفريغ الجنسي له و للكثيرين، حيث يجدها الكثير من الرواد ملاذا آمنا ، إباحية جنسية يسترها ظلام السينما و تؤججها الأفلام واللقطات الجنسية الصريحة. عندما علمت رهام صديقة الكاتب بقصة السينما قررت أن تجرب الاجواء الجنسية التي تحدث عنها غاندي كاز.
كما تعرف في الحانة على سهام رشيد المرأة المطلقة التي تعيش حياة منفتحة، وأنها كتبت رواية تتحدث بها عن تجربة زواجها مع زوجها (الثور) متحدثة بها عن تفاصيل ممارساته الجنسية المنفتحة والقاسية. وكيف وجدت بصاحبة مركز التجميل زبونة ثرية تبيعها روايتها، هي تستفيد منها ماديا، وتلك تكمل بها مظاهر تميزها، ولو عبر حكاية مبتدعة عاشتها غيرها.
تستمر حياة الكاتب في هذا الروتين بين عملين لا جديد حقيقي في حياته، سوى تبحره في العودة الى قصص أسلافه وأجداده، اغلبها مبتدع لتكمل صورة عن ماض عريق لهم. أو الغوص في كتب التراث الذي يعيد قراءتها وتدقيقها، يبحر في التاريخ والمعلومات. في أوقاته الأخرى يعيش مع رهام التي تعيش هوس المتع الجنسية التي لا تشبع. ولكن حصل مستجد لقد تغير رئيس التحرير في الموقع الالكتروني حيث يعمل، رئيس التحرير الجديد يتصرف وفق عقلية عسكرية قوامها الأوامر والالزام والتحكم بالعاملين، لم يستطع صاحبنا الكاتب أن يتحمله، ترك العمل غير آسف. أما المتغير الآخر فقد كان ان قرأت رهام كتابا مترجما عن الدولة البربرية، واكتشفت هوى جديدا تتابعه؛ أنها يجب أن تتابع قصة موت والدها. غادرته الى بلدتهم لتبحث بدء من قبر والدها، حكاية موته. وهكذا خسر واحته الجنسية مع رهام، وعاد الى حياته الفارغة الموحشة.
تنتهي الرواية عندما سمع صوت حذاء نسائي يقترب من موقع عمله…
في تحليل الرواية نقول:
اننا امام رواية تأخذك في البدء الى عوالمها المتنقلة بين غرائبية الاجداد وعوالم الكتب التراثية ومجون إشباع الجسد جنسيا، وهو غير قابل للإشباع. ولكن سرعان ما تتكشف خواء حياة الكاتب ومن ثم خواء المعنى في الرواية، ونبحث عن جواب السؤال: ماذا يريد ان يقول لنا الكاتب؟
يتحدث الكاتب وهو داخل دمشق في عام ٢٠١٨م، أن هناك حواجز في الطرقات تتفحص الهويات، تبحث عن مطلوبين أمنيا، يتحدث عن بعض المناطق المدمرة، يراقب طائرة مروحية في السماء هل سيكون هناك قذائف في مكان ما، ويومئ الى حرب اهلية بين الجيش وجماعات مسلحة. هل هذا كاف في التحدث عن سورية، بعد مضي سبعة سنوات على الثورة السورية ؟!!، وسورية التي اصبحت مدمرة نصفها، وتشرد الملايين، نصف شعبها، وقتلاها بمئات الآلاف، ومثلهم المصابين والمعاقين، السوريين الغرقى في البحار، المشردين في المخيمات وفي بلاد اللجوء. أين كل هذا من رواية تتحدث عن حياة تشبه عزلة الحلزون؟ لكنه للأسف نسي أنه ليس حلزون، ولن يستطيع ان يعيش عزلته، وانه من حيث يحسب او لا يحسب قد ساهم في تغطية الجريمة الحاصلة والمستمرة على الشعب السوري عبر الصمت عنها، وأنه عندما آثر السلامة وهو في قلب دمشق. قد خان أمانة الكتابة والدور المنوط بالأدب والرواية والثقافة. لن نطلب منه ان يكون استشهاديا عبر كتابته الروائية، لكنه بهكذا كتابة، انتقل ليغطي على واقع الناس حتى في الداخل. كان اولى به ان يصمت.
ماذا عن الجوع، الفاقة، الفقر، القمع، المظالم، هيمنة الجيش والامن والشبيحة والمحتلين الروس والايرانيين والميليشيات على كل مفاصل الحياة والدولة، الحياة البائسة على كل المستويات… الخ في سورية؟
اعلم أن الكاتب قد حصل على جوائز على أعماله الروائية السابقة، وقد تأخذ هذه الرواية جوائز ايضا. لأني أرى أن القيمين على الجوائز حرصين على رسالة الرواية التي أدتها بأمانة: التعامي عن الواقع والعيش في عوالم بديلة، والغرق في الذات والملذات والبحث عن الخلاص الفردي، وتصبح القاعدة العامة لكل فرد عربي وسوري: المهم انا وليس لي علاقة بأحد، مئة ام تبكي وأمي لا تبكي. للأسف.