نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرا في الذكرى العاشرة للهجوم الكيماوي الذي تعرضت له الغوطة الشرقية في 21 آب/أغسطس 2013.
وجاء في التقرير الذي أعده جوبي واريك أنه في ليلة من تلك الليالي الأكثر فظاعة، عندما كان الموت يطارد كل شارع ويتسلل إلى غرف النوم حيث ينام الأطفال الصغار، استيقظ طاهر حجازي على صوت شخص يصرخ باسمه خارج نافذته: “أحضر الكاميرا وانزل على الفور!”. فتساءل حجازي: “ماذا يحدث؟”. فقال الصوت: “انزل، لا أستطيع التحدث”.
خرج حجازي، الذي كان آنذاك مصور فيديو هاويا يبلغ من العمر 26 عاما ويعيش في ضواحي دمشق، حاملا الكاميرا. لم تكن الساعة قد بلغت الثالثة صباحا بعد، ولكن سرعان ما أصبح واضحا أن الكارثة قد حلت. سقطت صواريخ غريبة على الحي ليلا، وكان السم غير المرئي يتسلل إلى البيوت شرق العاصمة والمئات من الناس يموتون.
وسارع حجازي إلى مستشفى قريب وعندما اقترب منه، سمع صيحات وعويلا. ورأى العمال ينقلون جثث الموتى إلى الرصيف لإفساح المجال. وستظل مشاهد الضحايا محفورة في ذاكرته طوال حياته.
وقال: “لقد رأيت المشهد الأكثر رعبا، رأيت رجالا ونساء وأطفالا يسقطون ويموتون، خارج المستشفى، أمام المستشفى. لقد كان مثل يوم القيامة”.
بدأ حجازي بتصوير مقاطع الفيديو وتوثيق كل شيء. وفي مرحلة ما، وجه عدسته نحو فتاة صغيرة (6 سنوات تقريبا)، وترتدي قميصا أحمر اللون وقلادة على شكل قلب. كانت مستلقية على الأرض، وتحاول التنفس بصعوبة.
قال: “كان من الواضح أنها تختنق وتموت. وتساءلت: لماذا لا أرمي الكاميرا بعيدا وأحاول أن أفعل شيئا لمساعدة هذه الطفلة التي تحتضر؟ لكن لم يكن هناك شيء أستطيع فعله”.
وتعلق الصحيفة أن الهجوم بغاز السارين على المدنيين بالغوطة الشرقية في دمشق في 21 آب/ أغسطس 2013، ربما كان أكثر الفظائع توثيقا من نوعها في التاريخ. ومع ذلك، بعد مرور عقد من الزمان، لم يعاقب أحد على هذه الجريمة بل والمساءلة عنها ضئيلة إلى حد لافت للنظر.
فقد التقطت آلاف الصور ومقاطع الفيديو للهجوم ونتائجه. وقام جيش صغير من المصورين الوثائقيين المتطوعين مثل حجازي بتسجيل الأحداث، جنبا إلى جنب مع الصحافيين والمسعفين والمقيمين.
وسافر فريق عينته الأمم المتحدة إلى الأحياء المتضررة في غضون أيام لمقابلة الناجين وجمع عينات بيولوجية وشظايا الصواريخ، التي لا يزال بعضها يحتوي على غاز السارين السائل، وهو غاز الأعصاب القاتل الذي أطلق على ثلاثة أحياء تسيطر عليها المعارضة في تلك الليلة.
واستمر جبل الأدلة التي تشير إلى النظام السوري بالنمو. وقامت وكالات الاستخبارات ومفتشو الأسلحة بجمع وثائق سورية وإفادات شهود واتصالات تم اعتراضها وأدلة أخرى – بعضها لم ينشر قط – تتعلق باستعدادات جيش النظام السوري لتنفيذ الهجوم، فضلا عن المحادثات المذعورة بين المسؤولين السوريين بعد أن أصبح حجم الضحايا واضحا.
وكان الهجوم، الذي يقول مسؤولون أمريكيون إنه أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص، هو ثاني أعنف استخدام للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين قاطبة، ولم يسبقه سوى تسميم الزعيم العراقي صدام حسين الجماعي للأكراد في شمال العراق عام 1988.
ومع ذلك، حتى الآن، لم يتم استخدام أي من الصور أو بيانات الطب الشرعي التي تم جمعها في أعقاب الهجوم في المحاكمة. ولم تقم الأمم المتحدة ولا المحكمة الجنائية الدولية على الإطلاق باتخاذ إجراءات رسمية ضد النظام السوري، المتورط بشكل كبير في هجوم الغوطة، حسب مجموعات مستقلة متعددة قامت بمراجعة الأدلة.
ووجدت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أن النظام السوري مسؤول عن هجمات كيميائية أخرى، لكنها لم تبدأ تحقيقا لتقصي الحقائق لمعرفة الجاني في الهجوم الأكثر خطورة على الإطلاق.
وتعلق الصحيفة أن الأسباب معقدة، فمن جهة يلقي الخبراء اللوم بشكل رئيسي على روسيا، الحليف الأكثر أهمية لسوريا. فقد استخدمت موسكو حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وموقعها المؤثر لدى الوكالات الدولية لمنع إجراء تحقيقات رسمية في هجوم عام 2013، بنفس الطريقة التي أحبطت بها التحقيقات الدولية في جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها الجنود الروس في أوكرانيا.
كل هذا لم يعف الولايات المتحدة ودولا غربية أخرى من الانتقادات الشديدة بسبب رد فعلها المتخبط على الهجوم وعدم التصرف بشكل حاسم عندما وجد النظام السوري طريقة لمواصلة استخدام الأسلحة الكيميائية من خلال التحول من غازات الأعصاب المحظورة كغاز السارين إلى غازات عادية لا يزال مفعولها مميتا – غاز الكلور.
ومن جهة أخرى، يبدو أن قسما كبيرا من العالم قد تجاوز ببساطة تلك الأحداث، إذ صوتت أكثر من عشرين دولة عربية في أيار/ مايو لصالح تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد بعد مقاطعة دامت سنوات.
ولكن الناجين من الهجوم يرفضون الاستسلام. بالنسبة للعديد من الضحايا ومؤيديهم أصبح يوم 21 آب/ أغسطس رمزا قويا يشمل مئات جرائم الحرب المزعومة في الصراع الذي أودى بحياة ما لا يقل عن نصف مليون شخص. كما أنه أصبح يمثل أفضل أمل للمعارضة السورية في نهاية المطاف لمحاكمة الأسد وكبار جنرالاته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وقد أصبحت الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها حجازي وآخرون جزءا من أرشيف آخذ بالنمو، حيث يبحث المنفيون السوريون وجماعات حقوق الإنسان عن أدلة جديدة، بما في ذلك دراسات الطب الشرعي والوثائق الحكومية التي تم تهريبها إلى خارج البلاد من قبل المنشقين.
وفي العامين الماضيين، رفعت قضايا جنائية ناجمة عن هجوم الغوطة في ثلاث دول أوروبية. وتقوم شبكة من المحامين والناشطين باستكشاف نظريات قانونية جديدة يمكن أن تسمح لأول محاكمة جنائية دولية لنظام الأسد بالمضي قدما في الأشهر المقبلة.
ويقر مؤيدو الخطة بأنه من غير المرجح أن يرى الناجون من الغوطة رئيسهم السابق في قفص الاتهام في المستقبل القريب. لكن حتى المحاكمة الغيابية ستبعث برسالة مهمة إلى السوريين وبقية العالم، حسبما قال ستيفن راب، سفير وزارة الخارجية المتجول لقضايا جرائم الحرب وقت الهجوم.
وقال راب، الذي يقدم الآن المشورة للناجين بشأن استراتيجيتهم القانونية: “أراد الأسد أن يجعل الغوطة غير صالحة للعيش بالنسبة للسكان المدنيين، واستخدم غاز السارين لقتل ما لا يقل عن 1400 رجل وامرأة وطفل بريء. لقد كان هذا انتهاكا لقاعدة معترف بها عالميا على مدار العقود العشرة الماضية، وجريمة لا يمكن تبريرها أبدا”.
قبل أشهر، حذر رئيس الولايات المتحدة بشدة نظام الأسد من أن أي استخدام للأسلحة الكيميائية سيكون بمثابة اجتيار لـ “الخط الأحمر” الأمريكي. وفي نفس يوم الهجوم، كان فريق من تقصي الحقائق التابع للأمم المتحدة في العاصمة للتحقيق في مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة في الحرب الأهلية السورية.
حتى محققي الأمم المتحدة شعروا في البداية بالحيرة من قرار شن هجوم كيميائي واسع النطاق خلال زيارتهم، وكان هجوما قريبا جدا من العاصمة لدرجة أنهم تمكنوا من رؤية خطوط الصواريخ المنطلقة من نوافذ فندقهم. وقد روجت سوريا وروسيا للادعاءات بأن الثوار أطلقوا الغازات السامة على أحيائهم في عملية زائفة تهدف إلى جر الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى الحرب الأهلية.
وأثبتت التحقيقات خلاف ذلك. وتم الكشف عن أدلة حاسمة في أعقاب الهجمات مباشرة. وقد ظهر المزيد في السنوات التي تلت ذلك.
تم تحديد قرائن المهمة الأولى من قبل فريق الأمم المتحدة الذي تصادف وجوده على الأرض في ذلك الوقت. أثناء تنقلهم بدون أسلحة ودون مرافقة عبر المنطقة الحرام، متحدين القناصين والكمائن على طول الطريق، سافر المحققون إلى الأحياء المنكوبة وعثروا على بقايا صواريخ المدفعية المتخصصة التي ضربت العديد من الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة عبر منطقة تمتد عدة أميال شرق وجنوب دمشق.
وخلص تشخيص الطب الشرعي اللاحق إلى أن بعض الصواريخ استخدمت محركات سوفيتية التصميم ومزودة بعبوات أسطوانية كبيرة تطلق سموما سائلة شديدة التطاير عند الاصطدام. وأظهرت مسارات الصواريخ أنها انطلقت من مناطق يسيطر عليها النظام إلى الشمال والغرب.
ولأن غاز السارين المستخدم في الهجمات أثقل من الهواء، فقد التصق الغاز القاتل بالأرض وتسرب إلى الأقبية والملاجئ التي لجأت إليها العائلات التي لديها أطفال هربا من ضربات المدفعية في الليلة السابقة. وكان نحو ثلث الوفيات من الأطفال.
وقد قام المفتشون بالكشف علنا عن الجناة في ثلاثة تحقيقات أخرى تتعلق بالأسلحة الكيميائية، ولكن ليس في الغوطة. وكانت أيديهم مقيدة فعليا باتفاقيات قانونية معقدة توصل إليها الدبلوماسيون في أيلول/ سبتمبر 2013، في الأسابيع المحمومة التي أعقبت ظهور مشاهد المذبحة لأول مرة على القنوات الإخبارية التلفزيونية في جميع أنحاء العالم.
وبالمحصلة، امتنعت إدارة أوباما عن شن ضربة عسكرية أمريكية لانتهاك النظام “الخط الأحمر”، وأوقفت خطة لمهاجمة دمشق في البداية بسبب وجود فريق التفتيش التابع للأمم المتحدة على الأرض. ثم انهارت بالكامل بعد أن رفض المشرعون من كلا الحزبين السياسيين بأغلبية ساحقة التشريع الذي يسمح بتوجيه الضربة. وبدلا من ذلك، قبل الرئيس باراك أوباما الاتفاق الروسي الذي بموجبه تؤجل الولايات المتحدة العمل العسكري إذا وافقت سوريا على الانضمام إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية وتدمير مخزونها بالكامل من جانب واحد، تحت إشراف دولي.
وبموجب الاتفاق الروسي، لم يضطر الأسد أبدا إلى الاعتراف بدوره في المذبحة. ويمكن تحميل نظامه المسؤولية عن الهجمات الكيميائية المستقبلية ولكن ليس الهجمات الماضية. لكن ذلك لم يمنع دمشق من استخدام الأسلحة الكيميائية التي لا تحتوي على غاز السارين في الهجمات ضد الثوار والمدنيين.
وتقول جماعات حقوق الإنسان إن هناك أكثر من 300 هجوم بالأسلحة الكيميائية منذ عام 2013، غالبيتها العظمى باستخدام مادة الكلور.
المصدر:“القدس العربي”