لم تحمل الثورة السورية فكرًا ثوريًا واضح المعالم، مثلما حملت نزعة قوية للخروج من عالم أصبح سجنًا غارقًا في الظلام والبؤس وانعدام الأفق نحو المستقبل.
ولكونها افتقدت للفكر الثوري، افتقدت معه للاستراتيجية الثورية، فلم تكن قادرة على التمييز بين الأصدقاء والأعداء، بين من يمكن كسبهم في لحظة مرحلية ومن يمكن بناء تحالف استراتيجي معهم.
الكوادر القيادية التي كانت تتحمل مسؤولية بناء الخط الفكري – السياسي للثورة كانت في مرحلة ضياع فكري، يكفي تذكر ” نظرية الصفر الاستعماري ” البائسة لمعرفة حجم ذلك الضياع.
ومن أجل الجيل الجديد الذي لم يواكب تلك المرحلة التي طرحت فيها نظرية الصفر الاستعماري وما حملته من قلب للحقائق ونتائج مدمرة على صعيد الوعي لابد من وقفة قصيرة عند تلك النظرية الخرقاء.
فبعد الغزو الأميركي للعراق وتدمير الدولة العراقية في العام 2003 نشأ في سورية تيار فكري – سياسي يقول بأن السمة الرئيسية للمرحلة التاريخية الراهنة تتلخص في كون الولايات المتحدة قد أصبحت رافعة الديمقراطية في العالم، وهي في احتلالها للعراق إنما تقدم خدمة كبرى للشعب العراقي بتخليصه من المرحلة الديكتاتورية التي كان سجينًا فيها( تحت الصفر) لترفعه باحتلالها البلاد إلى مرحلة الصفر لفتح الطريق أمامه نحو الحرية والديمقراطية.
وقد توصل ذلك التيار الفكري – السياسي لتلك النظرية البائسة من واقع معاناته المريرة مع النظام الاستبدادي السوري، فلم يعد يرى في حقل السياسة سوى التخلص من الإستبداد بأية طريقة كانت.
فمن واقع العجز وافتقاد الرؤية الكفاحية طويلة النفس وضع كل بيضه في سلة السياسة الأميركية الحاملة لراية تعميم الديمقراطية في الشرق الأوسط كما بدا له في ذلك الوقت.
نشأ عن تلك الرؤية القاصرة ميل قوي لاستدعاء التدخل الخارجي الذي لم يكن سوى التدخل الأميركي، وتدعم ذلك الميل حين قامت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين بالتدخل العسكري في ليبيا وإنهاء نظام القذافي.
استطاع ذلك التيار السياسي الخروج من إطاره النخبوي الضيق إلى أن أصبح التيار السياسي الجارف لدى الشباب السوريين المتحمسين للتغيير تحت وطأة قمع النظام الذي فاق كل حد.
وضمن تلك الرؤية الضالة المضلة اندفع البعض نحو التسلح، ولم تمانع القيادات السياسية لذلك التوجه، باعتبار أن المواجهة العسكرية مع النظام ستكون سريعة ريثما يأتي التدخل الخارجي، بل ربما تكون المواجهة العسكرية مطلوبة لإحراج الحلفاء الغربيين ودفعهم للتدخل.
سقط من وعي ذلك التيار الفرق بين الوضع الجيوسياسي لسورية ووضع ليبيا، فسورية لاتملك بترول ليبيا الذي يمكن أن يكون جائزة لمن يدخل البلاد فاتحًا، وسورية حسب الاستراتيجية الأميركية تدخل في نطاق المجال الأمني لإسرائيل، وأي تغيير في أوضاعها ينبغي أن يتم بطريقة لاتخرج عن السيطرة وتؤدي إلى وضع أفضل بالنسبة لإسرائيل من الوضع الذي اختبرته من سلام وهدوء مثالي على الجبهة الشمالية في الجولان. وذلك يعني استحالة القبول بإسقاط النظام بطريقة مماثلة لليبيا.
كل ذلك كان بعيدًا عن تفكير القيادات السياسية، وخارج حساباتها حين قبلت حتى لانقول شجعت على التسلح ومواجهة النظام بالعنف.
افتقاد الوعي السياسي جاء نتيجة افتقاد الفكر السياسي والاستراتيجية السياسية. لايمكن أن تنجح ثورة بدون فكر سياسي، ولا بدون استراتيجية سياسية، بداية الانتكاسة لاتكمن فقط في الآخرين الذين نواجههم، لكن في العقلية التي تقود تلك المواجهة، في الأخطاء الكبرى وثيقة الصلة بالفكر والاستراتيجيا.