أجبرت ظروف الفقر والغلاء وتراجع التعليم آلاف الأطفال في محافظة إدلب السورية التي تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام على الالتحاق بصفوف الهيئة وفصائل مسلحة أخرى بحثاً عن مصادر رزق تساعدهم في الإنفاق على أنفسهم وأهلهم الذين يقطنون في مخيمات نزوح تخلو من مقومات الحياة.
وباتت رؤية الأطفال في المعارك وعلى جبهات القتال مشهداً طبيعياً بعد مرور أكثر من 11 عاماً على الحرب في سورية، بخاصة أنّ غالبية هؤلاء الأطفال ينتمون إلى بيئات فقيرة، أو يعيشون أوضاعاً اجتماعية صعبة في ظل تدني مستويات معيشة عائلاتهم، ما يجعلهم في ظل هذه المعطيات والواقع المزري الذي يعيشون فيه، صيداً سهلاً للفصائل المسلحة التي تستخدمهم لأغراض خوض الحرب، وتنفيذ مهمات الحراسة والقتال في الصفوف الأمامية مقابل منحهم رواتب متدنية.
رغم رفض مريم، والدة علاء البركات، البالغ من العمر 14 عاماً، تجنيده في البداية، تراجع قلقها مع مرور الوقت بعدما عاد إليها بأموال ساعدتها في تأمين بعض الاحتياجات المنزلية، بخاصة بعد وفاة زوجها بفيروس كورونا في مطلع عام 2021، وحاجتها إلى من يساعدها في إعالة أبنائها الستة.
تقول مريم لـ”العربي الجديد”: “اضطررت إلى قبول تجنيد ابني البكر بعدما ضاقت بنا الحياة وانعدمت السبل أمامنا في مكان إقامتنا بمخيمات سرمدا الحدودية بعد نزوحنا من بلدتنا الدير الغربي، جنوبي معرة النعمان، في نهاية عام 2019”. مع ذلك، لا تخفي مريم خوفها على ابنها من مخاطر القذائف التي تطلق من مناطق نظام الأسد، لكنّها اعتادت الأمر.
بدوره، لم يتردد جاد الكرمو، الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من العمر، في الالتحاق بصفوف الفصائل المسلحة بعدما عجز عن إيجاد فرصة عمل لمساعدة والده المريض بالسكري ووالدته وإخوته، وجميعهم يقيمون في مخيمات إدلب العشوائية وسط ظروف بالغة التعقيد، وهو اقتدى فعلياً بأطفال كثيرين في المخيم انضموا إلى قافلة التجنيد بحثاً عما يسد رمقهم ورمق أهلهم، ويقول لـ”العربي الجديد”: “لم نعد نجد ما نأكله بخاصة أن والدي غير قادر على العمل، كما لم يوافق أي من أصحاب العمل على تشغيلي، فانتسبت لهيئة تحرير الشام من أجل الحصول على راتب شهري أنفقه لجلب بعض الطعام لأهلي”.
واستهل جاد رحلة التجنيد قبل نحو عامين، حين انضم إلى معسكر تدريبي استمر أكثر من ستة أشهر، وتعلّم فيه حمل السلاح وكيفية استخدامه، ثم التحق بدورات عسكرية أخرى، وجرى فرزه إلى نقطة ربط على جبهة بمنطقة جبل الزاوية التي تبعد بضعة كيلومترات عن قوات نظام الأسد. شعر جاد بخوف خلال الفترة الأولى من تجنيده، بخاصة لدى سماعه أصوات سقوط القذائف والتفجيرات قرب موقع خدمته، لكنه اعتاد هذا الأمر مع مرور الوقت، وأصبح الأمر روتيناً يومياً بالنسبة إليه.
وينضم جاد إلى دوريات قتال تشهد تبادله مهمات مع من يصفهم بأنهم “رفاق السلاح”، ويحصل بموجبها على راتب شهري مقداره 1000 ليرة تركية (53.13 دولاراً)، يصفه رغم ضآلته بأنه “راتب جيد، لأنه يبعد أهلي عن العوز وطلب مساعدة من الآخرين”.
ولم يسلم الأطفال الذين جرى تجنيدهم من تبعات الحرب والمعارك، وعاد كثيرون منهم جثثاً هامدة، ومن بقي منهم على قيد الحياة عاد بعجز وإعاقة جسدية ونفسية.
تعرض الفتى إبراهيم الشيب، الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر، لبتر في ساقه اليمنى بعدما أصابته شظية قذيفة استهدفت موقعاً قريباً من موقع تمركزه على أطراف مدينة سراقب. وبحزن واضح على ملامح وجهه المتعب، يقول إبراهيم لـ”العربي الجديد”: “أردت فقط تأمين حياة كريمة لأهلي الفقراء، وهم نازحون، عبر الالتحاق بصفوف هيئة تحرير الشام، لكنني فجعت ببتر قدمي وأنا في مقتبل العمر، في حين لا أملك رعاية صحية أو تعويضاً مادياً”. ويحمل إبراهيم داخله أحلاماً دراسية كبيرة كان يرغب في تحقيقها يوماً ما، لكن الحرب والفقر قضت عليها جميعاً بلا رحمة، وجعلته معوقاً وسط ظروف إنسانية سيئة.
وتعتبر المرشدة النفسية والاجتماعية رهف المرعي، في حديثها لـ”العربي الجديد”، أنّ “ظاهرة تجنيد الأطفال خلّفت دماراً اجتماعياً بكل معنى الكلمة، فبدلاً من التحاق الأطفال بصفوف المدارس توجهوا إلى الصفوف الأمامية للجبهات، وبدلاً من التسلح بالعلم والمعرفة أمسكوا بنادق ورشاشات كلاشينكوف”.
تضيف: “يترعرع أولادنا بإشراف قادة حروب يغذون عقولهم البسيطة والبريئة بأفكار متطرفة ومعقدة، ويعبئون نفوسهم بخطاب العنف والكراهية، وهو ما ينتج جيلاً عدائياً يحمل أحقاداً دفينة”، وتشير إلى أن “العنف يؤثر في طبيعة الطفل فيجعله انعزالياً وعديم الثقة بنفسه، ولا قدرة لديه على المبادرة لأنه يخشى الفشل والتأنيب أو الاستهزاء به، ويلازمه الإحباط في طفولته وحين يكبر، لذا نرى أن بعض الأطفال يملكون صفات عدوانية في التعامل مع الباقين، وأيضاً تصرفات غير متزنة واضطرابات في الإدراك والفهم والتعلم”.
من جهته، يعلّق المدير التنفيذي للشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني على ظاهرة تجنيد الأطفال بالقول لـ”العربي الجديد”، إنها “قضية معقدة تتعلق أسبابها وجذورها بتشرد هؤلاء الأطفال وافتقارهم إلى العمل والمعيل، ما يدفعهم إلى البحث عن مصدر رزق يجدونه من خلال التجنيد، الطريق الوحيد المفتوح أمامهم بلا شروط أو تعقيدات من قبل فصائل مسلحة تستقبلهم، لا سيما هيئة تحرير الشام”.
ويشير إلى أنّ “معالجة المشكلة تتطلب إيقاف النزاع والتأثير على هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى لتوقيف تجنيد الأطفال، لكنّ هذه الوسائل والسبل غير متاحة على المدى القريب”.
ويورد التقرير السنوي الحادي عشر عن الانتهاكات المرتكبة في حق أطفال سورية الذي أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان في مناسبة اليوم العالمي للطفل، العام الماضي، أن 29.894 طفلاً على الأقل قتلوا في سورية منذ مارس/ آذار 2011، بينهم 182 قضوا تحت التعذيب، وما زال 5162 قيد الاعتقال أو اختفوا قسراً.
المصدر: العربي الجديد