كتبت عدة مرات عن رفضي المبدئي لفكرة انتشرت على نطاق واسع في كتابات وتحليلات ما بعد ثورة 2011 وهي أن المساوىء ; والرزايا والانحرافات الكبرى في النظام السوري بدأت مع عهد حافظ الاسد عام 1970 وكان رأيي دائما أن النظام الذي ما زال قائما بدأ عام 1963 ولا يصح منطقيا اسقاط المرحلة التي سبقت الاسد , لأسباب موضوعية أولها أنه لا يمكن فهم ماجرى في الثمانينات والتسعينات وصولا حتى الآن بدون مرحلة التأسيس . خصوصا وأنها حفلت بأحداث جسام .
صحيح أن نظام الاسد عمق الهوية العلوية الطائفية والفساد والديكتاتورية والقمع , إلا أن البذور الاولى والمرتكزات الاساسية كافة بدأت بانقلاب الثامن من آذار 1963 والنظام البعثي الذي نشأ على قواعد اديولوجية وسلوكيات فاشية واضحة لم تتغير فيما بعد , ولكنها تعمقت واستفحلت مع الوقت نتيجة تعاظم قوته وضعف المعارضة في مواجهته .
ومن أهم خصائصه التي ظهرت منذ البداية خصيصته أو علامته الفارقة كنظام توتاليتاري شمولي معاد للشعب وقيمه وثقافته وحريته , واستعماله المفرط للقمع والقوة في مواجهة مواطنيه عموما , وخصومه السياسيين خصوصا . وعلى سبيل المثال من يعتقد ان فصائل الشبيحة ( قوات الدفاع الوطني ) مثلا هي منجز جديد من مبتكرات عهد بشار الاسد يرتكب خطيئة تاريخية فادحة , لأن نظام البعث منذ عامه الاول أسس (الحرس القومي) , وهو ميليشيا بعثية اسسها الحزب عام 1964 خارج قوانين الدولة لتثبيت سلطته والتخلص من المعارضة القوية ولارهاب المواطنين . وقد ارتكب الحزب وحرسه القومي جرائم كبيرة لا تعد ولا تحصى بحجة استئصال الرجعية , والتصدي لمؤامرات الصهيونية والامبريالية ضده (!) , وهي مفردات ما زالت معتمدة ومتداولة في اوساط الحزب والنظام و(محور المقاومة) حتى اليوم . وهي مستقاة اصلا من قاموس البعث ونظام آذار , ولا سيما إبان فترة القمع الدموي بين 1979 – 1982 .
ومن هذه الخصائص أيضا استفحال الفساد وتعميمه الى حد أن جيل الشباب ومن هم دون سن الاربعين من شعبنا اعتقدوا أنه من منتجات نظام الاسد بينما تعود اصوله في الحقيقة الى بدايات الستينيات, نتيجة تأميم السلطة للمصانع والشركات الكبرى ونزعها من اصحابها بطريقة لصوصية بعيدة عن مفهوم التأميم , ثم تسليمها لرفاق بعثيين بلا اخلاق ولا كفاءة لادارتها فقاموا بسرقتها وافلاسها واحراقها لكي تضيع بصماتهم الآثمة مما أعطى انطباعا بأن ما حدث تحت اسم الاشتراكية كان جريمة سرقة مع سبق القصد دافعها الحقد الطبقي العشوائي , وهدفها احلال نخبة لصوصية ريفية تعاني من التهميش التاريخي محل نخبة اقطاعية و بورجوازية مدينيةعريقة تسودها نزعة الانتماء الوطنية والعصامية وروح المبادرة والاخلاق . هذا التحول الطبقي أدى لاختلال التوازن الاجتماعي الحاد , ونتيجة تمركز القوة الاقتصادية والمالية والسلطة السياسية والعسكرية في أيدي اجهزة المخابرات السرية ومجموعة ضيقة من البعثيين وغياب المحاسبة وعدم وجود برلمان , ولا صحافة حرة , ونتيجة لتبعيث القضاء منذ عام 1975 وفقدان القضاء استقلاليته ونزاهته .
ومن هذه الخصائص معاداة النظام البعثي منذ البداية للاسلام ورموزه ومؤسساته الاجتماعية والتربوية والاخلاقية .وإذا كان استطاع في البداية تصوير هذا العداء كمظهر للصراع الاديولوجي بين تقدميين ويساريين , وبين اشتراكيين واقطاعيين , إلا أنه في عهد الأسد اتضح انه تعبير عن ثقافة طائفية واحقاد فئوية ( علوية ) تاريخية متوارثة .
تدمير المساجد حدث منذ عام 1964 حين قصفت مدفعية الجيش العقائدي مسجد السطان ودمرت مئذنته كما راينا بعد ثورة 2011 . التهجم على الاسلام ديانة وعقيدة ظهر وتكرر منذ البداية ايضا بدليل المقال الشهير الذي كتبه ابراهيم خلاص في مجلة ( جيش الشعب , العدد 794 الصادر في 25 حزيران – يونيو 1966 ) وجاء فيه ( الطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الانسان الاشتراكي الجديد الذي يؤمن أن الله والأديان والاقطاع ورأس المال والاستعمار وكل القيم التي سادت في المجتمع السابق ليست الا دمى محنطة في متاحف التاريخ ) . ظهر هذا المقال قبل خمسين سنة من كتابة الشيخ احمد شلاش في السنوات الأخيرة : نحن لا نعبد إلا بشار الاسد ونصلي له في الليل والنهار. ويقول إن قبلته هي عرين الاسد وسجادة صلاته هي علم بلاده , وقبل أن يتجرأ بشار الجعفري على القرآن الكريم ويقول إن لديهم قرآنا مختلفا , وأن فاتحة كتابهم الحرب على الارهاب, وممارسة جنود الاسد للدعارة وشرب الكحول في المسجد الاموي بحلب , أو الاعتداء على ضريح الصحابي الجليل خالد بن الوليد في حمص ورفع الرايات المذهبية عليه .. إلى آخر هذه الترهات والسلوكيات التي شاعت في السنوات الاخيرة في سوريا , والتي لم يسجل تاريخ المحنة الفلسطينية أن الاسرائيليين اقترفوا شيئا منها لا في فلسطين ولا في لبنان خلال سنوات احتلاله .
وللأسف يتناسى البعض عمدا ولأغراض شخصية ماكرة يحاول التنصل من المسؤولية وتجاهل الحقائق الثلاثة السابقة خصوصا المجموعات البعثية التي التحقت بالمعارضة واحتلت مراتب عالية في منظمات الثورة حاليا, بعد أن انشقت عن النظام نتيجة صراعاتهم الداخلية (بعث القيادة القومية, وبعث شباط ) ومحاولاتها التنصل من مسؤوليتها التاريخية بدل أن تنتقد نفسها وتراجع ماضيها . مستفيدة من كون غالبية الشعب السوري ولدت بعد عام 1970 ولم تطلع على بدايات نظام البعث بين 1963 و1970 . ولكن هذا الوضع الناشىء عن غياب الحريات في سوريا يمكنه اخفاء الحقائق التاريخية لبعض الوقت ويمكنه تضليل الناس ردحا من الزمن , ولكن لا يمكنه طمسها الى الابد ولا تزييفها وتزويرها , ولذلك لا بد من احقاقها واعادة كتابة تاريخ سوريا المعاصر وفتح ملفات العهود السابقة وتقويم حقبة الطغيان الاسود التي مر بها السوريون خلال نصف قرن وتوزيع المسؤوليات بشكل عادل لكي لا يتكرر الماضي ويعود الفاسدون والمجرمون الى السلطة مرة أخرى متنكرين بثياب الثوار والمعارضين , ولكي لا يفلت من المحاسبة والقصاص أحد يستحق العقاب .
نشهد اليوم محاولات لتزوير التاريخ والتخلص من تبعات الماضي , والهروب الى الامام وهي أشياء لا تقل خطورة عن طعن الثورة أو افراغها من مضامينها , أو احباطها من داخلها , أو حرفها عن غاياتها العميقة