يعود تاريخ المنظمات الكشفية في سورية إلى سنة 1912، إذ أدخلها شقيقان هنديان كانا يدرسان في جامعة بيروت الأمريكية. كانت الحركة الكشفية حركة شبابية طوعية حققت نجاحاً كبيراً وحضوراً لافتاً في تاريخ سوريا الحديث، وكان هدفها تنمية الشباب بدنياً وثقافياً، عبر نشاطات تُعقد في الهواء الطلق، مثل المخيمات والسفر على الأقدام وألعاب الرياضة بكل أنواعها. شبابها كانوا يرتدون زيّاً موحداً “سكاوت” يُخفي كل الفروق الطبقية بينهم، مع قبعة كشفية ووشاح رقبة.
وجاء في قانون الكشّاف العالمي عدّة شروط أساسية للانتساب، طبقت حرفياً في سوريا، وهي أن يكون أعضاؤها: صادقين مع أنفسهم ومع زملائهم، مخلصين لوطنهم ولرؤسائهم ومرؤوسيهم، نافعين لمجتمعهم، ودودين مع الآخرين، مؤدبين، رفيقين بالحيوان والنبات، مطيعين لعريفهم، بشوشين، مقتصدين، نظيفي الفكر والفعل، وشجعاناً.
دور محمود البيروتي المنسي
قبل ذلك، كانت قد ظهرت منظمة كشفية تُدعى “الكشّاف المسلم العثماني”، التي دخل في صفوفها عدد من الشباب العرب، ولكنها توقفت مع سوق آلاف الشباب إلى جبهات القتال العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. أول من سعى إلى استعادة التجربة وتطويرها في سوريا كان شاباً من سوق ساروجا اسمه محمود البيروتي، وهو ابن أحد موظفي بلدية دمشق، ولد سنة 1903، درس في الكلية الحربية وتخرج منها سنة 1920، قبل أسابيع قليلة من معركة ميسلون. رفض الشابُّ العمل مع الفرنسيين وهرب إلى عمّان، عارضاً نفسه على الأمير عبد الله ليكون ضابطاً في الجيش الأردني. عاد إلى سوريا ونشط في صفوف الحركة الوطنية تحت راية عبد الرحمن الشهبندر، ثم فتح متجراً لبيع المنوعات (نوفوتيه) في زقاق رامي، خلف السراي، في ساحة المرجة.
في الطابع العلوي لمتجره، أقام البيروتي مكتبة صغيرة صار يتردد عليها طلاب المدارس والجامعات، فتحولّت إلى ملتقى للشباب المثقف والثائر ضد الانتداب الفرنسي. أحد زواره كان طالب الحقوق في جامعة السوربون منير العجلاني، وطالب الطب في جامعة دمشق مدحت البيطار. تشاركا معه في تنظيم شباب المدينة ضمن فرقة كشفية صغيرة، أطلقوا عليها اسم “كشّاف أميّة” في كانون الثاني/يناير 1929. لفت محمود البيروتي انتباه زعماء البلاد وفي مقدمتهم نائب دمشق فخري البارودي، الذي تبنى كشّاف أميّة وخصص له ميزانية تصرف من الكتلة الوطنية، كما ساهم في تمويلهم الصناعي توفيق قباني (والد نزار قباني).
مرحلة عبد الكريم الدندشي
في نفس المرحلة، ظهرت تنظيمات كشفية أخرى بدمشق، مثل كشّاف ميسلون، الذي ترأسه مدحت البيطار، وكشّاف الغوطة، الذي أسسه المحامي الشاب علي عبد الكريم الدندشيي، وهو عضو سابق في الكشّاف المسلم العثماني. وقد عمل معه في كشّاف الغوطة المحامي الدمشقي الشاب فائز الدالاتي ونظيره اللبناني، ابن الجنوب، أحمد الشهابي.
بقي محمود البيروتي مغموراً نسبياً في كتب التاريخ، ولم يأخذ حقه إلّا في كتاب “سورية والانتداب الفرنسي” الذي وضعه البروفيسور الأمريكي–اللبناني فيليب خوري سنة 1987 (صدر عن جامعة برينستون).
وقد ارتبط الكشاف السوري بعد الكريم الدندشي، الذي نقله نحو الاحترافية وظلّ نشيطاً في صفوفه حتى مراحل متقدمة من حياته. ولد الدندشي في قرية قريبة من مدينة تلكلخ سنة 1907 وهو سليل عائلة سياسية معروفة قادت ثورة مسلحة ضد الفرنسيين في مطلع العشرينيات. درس في الكلية الإسلامية في بيروت ثم نال شهادة بالحقوق من جامعة دمشق قبل أن يؤسس كشاف الغوطة، الذي أثار اهتمام البارودي، فحاول ضمه إلى تنظيمات الكتلة الوطنية الشبابية، ولكن الدندشي رفض، حفاظاً على استقلالية مشروعه.
كشاف الغوطة
وفي سنة 1929 حصل كشّاف الغوطة على اعتراف من الكشاف المسلم في بيروت، ما فتح المجال أمام الدندشي لحضور مؤتمرات كشفية دولية، ممثلاً عن سوريا. وفي سنة 1931، أسّس اتحاد الكشاف السوري وانتُخب رئيساً له. في عهده وصل عدد المنتسبين إلى التنظيمات الكشفية في سوريا إلى 3000، وتمكن الدندشي من زيادة العدد إلى 15 ألفاً بعد فتح أبواب المنظمة الكشفية أمام المسيحيين واليهود.
ومع نهاية العقد الثالث من القرن العشرين، توسع النشاط الكشفي مع إنشاء فرع خاص بالأشبال الذين تراوح أعمارهم ما بين 7 و 12 سنة، ووصل عدد أعضاء الكشاف السوري إلى 38 ألفاً عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939.عرّف الدندشي الكشفية بأنها “المؤسسة القومية لشباب الأمة، المحافظة على القيم والأخلاق والأهداف الوطنية، والمتميزة بالفضائل والقدرة على حسن التكييف”.
لم يتمكن الدندشي من الحفاظ على استقلالية منظمته طويلاً، ووجد نفسه مجبراً على العمل مع كشاف الكتلة الوطنية بعد الدمج بين كشاف أمية وكشاف الغوطة، كما شارك في المؤتمر الكشفي العالمي في هولندا سنة 1937، وأقام أول مؤتمر كشفي عربي في بلدة بلودان بريف دمشق سنة 1938، تحت رعاية رئيس الحكومة السورية جميل مردم بك، أحد قادة الكتلة الوطنية.
وبعد جلاء القوات الفرنسية سنة 1946، انضم عبد الكريم الدندشي إلى جيش الإنقاذ في فلسطين، وانتخب نائباً في البرلمان السوري سنة 1954، وشارك في صياغة المرسوم التشريعي رقم 119 الذي نظّم الحركات الكشفية والرياضية في سورية.
بين النجاح والإجهاض
خلال سنوات حكمها الأولى في سوريا (1936-1938)، جعلت الكتلة الوطنية من الحركة الكشفية ركناً أساسياً من برنامجها السياسي، وأصبح النشاط الكشفي إلزامياً في المدارس السورية كافة. في إحدى زياراته التفقدية إلى مدرسة التجهيز سنة 1937، خطب وزير المعارف الدكتور عبد الرحمن الكيّالي بالطلاب قائلاً: “باسم الوطن… باسم العلم… باسم الكشفية”.
كانت فرق الكشّاف هي السباقة في تنظيم المظاهرات ضد الانتداب الفرنسي، ولها حضور راسخ في الأنشطة الرياضية والثقافية، من مباريات كرة القدم ومعارض الرسم والعروض المسرحية والموسيقية، كما طَلب منها البارودي المشاركة في عيد الجلاء الأول سنة 1946.
كانت فرق الكشّاف هي السباقة في تنظيم المظاهرات ضد الانتداب الفرنسي، ولها حضور راسخ في الأنشطة الرياضية والثقافية
وأصبحت الفرق الكشفية منذ ذلك الحين جزءاً من الاستعراض العسكري الكبير الذي كان يُقام في شارع الرئيس شكري القوتلي في ذكرى الجلاء يوم 17 نيسان/أبريل.
مع ذلك لم تخلُ تجربة الكشاف من مضايقات، لا في زمن الفرنسيين أو في عهد الاستقلال. ففي سنة 1932 مثلاً، مُنع انتساب أي مواطن سوري إلى المنظمات الكشفية في حال تجاوزه العشرين من عمره، وصارت مخالفة هذا الأمر جرماً يُعاقب عليه القانون بالسجن خمسة عشر يوماً.
اعترض الدندشي وزميله بكري قدورة على هذه التدابير، وسطّرا اعتراضاً خطيّاً شديد اللهجة لرئيس المنظمة العالمية للحركة الكشفية في لندن، روبرت بوال. وفي سنة 1939، اعتقل محمود البيروتي بتهمة التحريض ضد الانتداب الفرنسي عبر الفرق الكشفية، وزُج به في سجن تدمر وسط الصحراء. وقد حلّ كشّاف أميّة أولاً في زمن الانتداب، وتوجه الكثير من أعضائه إلى كشّاف الغوطة، الذي حلّ تباعاً من قبل الفرنسيين سنة 1945. وفي السبعينيات، ألغيت المنظومة الكشفية بأكملها، ليعاد العمل بها في منتصف التسعينيات بعد ربطها بالمنظمات الشبابية التابعة لحزب البعث الحاكم منذ عام 1963.
المصدر: رصيف 22