لم تسنح الفرص والظروف للإعلام التركي، لكي يتعامل مع موضوع الحوار الكردي الكردي في سورية بعد. انشغالات فيروس كوفيد – 19، والأزمات الاقتصادية والمالية، ونقاشات عملية انقلابية يلمّح إليها بعضهم في صفوف المعارضة، هي التي تتقدّم وتطغى على غيرها من شؤون وقضايا.
ما الذي يدفع أنقرة التي تقول إنها تخوض حربا ضد جماعات إرهابية في سورية مرتبطة مباشرة بحزب العمال الكردستاني وبقراره، وأنها تتحرّك لحماية وحدة سورية وقطع الطريق على مشاريع التفتيت والتجزئة، وتغيير شكل البنية السياسية والدستورية فيها، ما الذي يدفعها إلى التغاضي عن الحوار الكردي الكردي الذي يدور في شرق الفرات؟ اجتماعات القيادات الكردية السورية أخيرا هي عملية اختبار للنيات والقدرات، أو مناورات حزبية سياسية، بهدف اكتشاف فرص تسجيل الاختراق أو الالتفاف على الطرف الآخر لتحسين المواقع، قبل أن تكون اجتماعات لبحث مستقبل القضية الكردية في سورية، ووضع استراتيجيات التحرّك الواجب بحثها مع بقية اللاعبين المحليين. خلافات اللاعبين الكبار في الملف السوري هي التي أوصلت الأمور كردياً إلى هذه النقطة، والتفاهمات بين اللاعبين أنفسهم هي التي ستحدّد شكل الملف الكردي السوري ومساره.
لم تكن نقاشات “شيلني أشيلك” الكردية الكردية في سورية لتتم، ولن يكون لها أي تأثير من دون الضوء الأخضر الأميركي والروسي، والتركي تحديدا. هذه القوى الثلاث هي التي ستكون موجودة أمام الطاولة لحظة اتخاذ القرارات. والحضور الإيراني وكذا الإسرائيلي ومعهما المصري والآخر الأوروبي مهم طبعا، ولكن في الكواليس ربما.
قد تستغل قوات سورية الديمقراطية (قسد) حالة التخبط التي تعيشها سورية، كما حدث مع أكراد العراق، لتعزيز فرصها في التفاوض، والوصول إلى ما تريد، لكنها ستتذكر دائما أن روسيا هي التي رفضت أن تهيمن واشنطن بمفردها على الثروات والأراضي الخصبة في شرق الفرات، وأن أنقرة نفذت ثلاث عمليات عسكرية واسعة في شمال سورية، كان آخرها يلزم الإدارة الأميركية بتقديم التضحيات والتنازلات هناك على حساب الشريك الكردي. عدم الضغط الأميركي هنا مجرّد مناورة، أو محاولة ابتزاز سياسي خلال التفاوض النهائي مع أنقرة وموسكو لا أكثر، فواشنطن تعرف قبل غيرها صعوبة إبقاء ثلث الأراضي السورية الاستراتيجية تحت إشرافها، وهي تنسق مع شريكٍ يأخذ أوامره من جبال قنديل (قيادات حزب العمل الكردستاني)، كما تقول أنقرة.
حاول الزعيم الكردي، مسعود البارزاني، قبل عامين، التمرّد على التوازنات الإقليمية في العراق، بالذهاب وراء استفتاء شعبي كردي منفرد، منحه بالأكثرية المطلقة فرصة إعلان الانفصال عن الدولة، فوجد العالم بأكمله يتحد ضده، لأنه قرّر الخروج عن التفاهمات، ومغادرة بيت الطاعة من دون استئذان. وجاء قرار فتح أبواب الحوار بين الفصائل والقوى الكردية السورية إقليمياً، قبل أن يكون خطوةً تتم بإرادة محلية. ولن تجد القيادة السياسية التركية التي أقنعت واشنطن وموسكو بضرورة القيام بعملياتها العسكرية الواسعة في الشمال السوري، وقلب حسابات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) هناك، لن تجد صعوبة في إقناعهما مجدّدا باستحالة تقديم مناقشة حقوق الأكراد ورسم الخرائط السياسية والدستورية على حساب الأكثرية السكانية السورية المشرّدة بين لاجئ ونازح، وقبل حسم موضوع النظام الذي يعيش آخر أيامه.
لم يتمكّن السلاح الأميركي من عرقلة عملية نبع السلام التركية في شمال سورية، لأن تركيا خاضتها تحت شعار الحرب على الإرهاب، فكيف ستقبل إبقاء هذه المجموعات والأفكار في إطار خطة تكريسهم جيراناً لها على حدودها؟ واشنطن التي عقدت أكثر من صفقة سياسية، إقليمية وغربية، في شرق الفرات، للإمساك بورقة “قسد” لن ترفض عروضا تركية وروسية جديدة، تضع نقاشات الملف الإيراني ومصالح إسرائيل وتفاهمات رحيل بشار الأسد في سلة واحدة، تتطلب مراجعة سياستها الكردية في سورية.
الحوار الكردي الكردي رسالة تذكير أميركية لحليفها المحلي باستحالة تفريط واشنطن بعلاقاتها الاستراتيجية مع شريكها التركي، والدخول في مواجهة مع موسكو، من أجل إعطائه ما يريد. الأولوية هي للحوار السوري السوري الواجب أن تكون هذه الشريحة أيضا جزءا منه. مصلحة سورية العليا هي الواجب مناقشتها أمام الطاولة الكردية الكردية، وهذا هو هدف الحوار المتفق عليه بين العواصم الثلاث.
كانت “وحدات حماية الشعب” (فصائل كردية مسلحة تتبع قوات سورية الديمقراطية) تقول، قبل انطلاق العمليات العسكرية التركية في شمال سورية، إنها لن تنسحب من غرب الفرات تحت الضغط التركي، “لأننا أصحاب الأرض”. وكانت أنقرة تردّ “لن نتردد لحظة في دخول مغامرة عش الدبابير السوري لقطع الطريق على خطر أكبر”. والآن، تذهب “قسد” إلى الطاولة لتجنب مأزق الضغوط الثلاثية التي ستواجهها وتدفعها نحو العزلة والتهميش. وهي قلقة من أن تتحوّل الضغوط إلى تفاهماتٍ تأخذ بعين الاعتبار التوازنات الإقليمية والدولية الجديدة، بدلا من القديمة التي أطلقت يدها في شرق الفرات، وشارفت على الانتهاء. .. وما يقرّب الطرفين الكرديين ربما هو المشروع الفدرالي في سورية، لكن المرجع الحقيقي هنا سيكون تفاهم القوى الإقليمية المعنية مباشرة بالملف السوري بشأن شكل الخريطة السياسية والدستورية لسورية المستقبل.
إلى ذلك، لا يمكن أن يتجاهل قرار إعادة بناء سورية الجديدة الإجحاف والمعاناة الكردية عبر عقود، لكن قرار بناء الكيانات المستقلة في سورية لا يمكن أن يناقش بمعزل عن رغبة وإرادة الملايين الذين يشكلون أغلبية شرائح المجتمع، العرقية والعددية. كانت التجربة الكردية مع “البعث” مؤلمة، لكن الانتقام لا يمكن أن يكون على حساب عروبة سورية ووحدتها، بذريعة تفتيت دولة لبناء كيان يرفع علم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في القامشلي، “العاصمة” التي تستقبل البعثات الدبلوماسية على مسافة أمتار من الحدود التركية.
المراد من الجلسات الكردية الكردية هو التمهيد للانتقال بالملف السوري من الحروب بالوكالة إلى التفويض بصناعة السلام، والاختبار الأول سيكون معرفة مدى استعداد “قسد” للقطيعة مع حزب العمال الكردستاني، والالتزام بالثورة في سورية، وتسهيل عودة بقية القوى السياسية الكردية لممارسة نشاطاتها في شرق الفرات. الحوار الكردي الكردي محاولة جس نبض واختبار في احتمال تغيير المواقف والسياسات حيال ملفات سورية سورية، قبل أن يكون بهدف الضغط باتجاه الوصول إلى مصالحة كردية – كردية، أو إنهاء حالة الانقسام الحزبي الكردي، أو تشكيل إدارة جديدة لشمال سورية وشرقها. أعطى الضوء الأخضر للحوار في أنقرة وموسكو وواشنطن، بتشجيع أربيل وتل أبيب وباريس، وسط انزعاج وغضب في القاهرة ودمشق وطهران.
كل هذا العناد والتعنت التركي في ليبيا وعدم التخلي عن حكومة الوفاق، على الرغم من الحملات الإعلامية والسياسية والتسليح المصري الإماراتي للجنرال الليبي المتقاعد المتمرّد، خليفة حفتر، مؤشر يساعد القيادات والفصائل الكردية في سورية للتأكد من مسألة أن تركيا لن تتساهل مع محاولات رسم الخرائط والنفوذ على حسابها في بقعةٍ جغرافيةٍ ازداد تداخلها الأمني والسياسي معها.
المصدر: العربي الجديد