في احتفال أقيم في البيت الأبيض في 9 أغسطس (آب) بعد أيام من مصادقة مجلس الشيوخ في تصويت كاد يكون بالإجماع على توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل فنلندا والسويد، سلط الرئيس الأميركي جو بايدن الضوء على الكيفية التي يؤدي بها الغزو الروسي لأوكرانيا إلى نتائج معاكسة لما أراده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأعلن بايدن “أنه يحقق تماماً ما لا يريده”. وأضاف “أراد فنلدنة [جعلها محايدة مثل فنلندا] الناتو، لكنه يرى الآن أن الناتو هو الذي صبغ فنلندا بصبغته، إلى جانب السويد”. والحق أن غزو روسيا لأوكرانيا كان خطأ استراتيجياً فادحاً أدى إلى إضعاف روسيا عسكرياً واقتصادياً وعلى المستوى الجيوسياسي.
والهجوم الأوكراني المضاد في خاركيف في سبتمبر (أيلول)، أدى إلى إبراز حجم الخطأ الذي ارتكبه بوتين. فتفاقم إنهاك القوات الروسية واستنزفت طاقتها، وفقدت الزخم في المعركة، وانتزعت أوكرانيا زمام المبادرة، ووجهت ضربة حاسمة للجيش الروسي.
وكشفت نجاحات أوكرانيا في الميدان مدى التعفن في جيش بوتين. فالروح المعنوية في الحضيض، والروح القتالية متردية، ونوعية القوات هزيلة. ومع ذلك، بدلاً من التخلي عن غزو أوكرانيا، كان رد بوتين إصدار الأمر بتعبئة عسكرية جزئية أي زج المزيد من الجنود في أتون الحرب، وفرض عقوبات أشد صرامة على الجنود الذين يفرون أو يستسلمون، والمضي في عملية الضم غير القانوني لأربع مناطق أوكرانية.
أما جوابه عن تراجع حظوظه في أوكرانيا فكان شبيهاً بما فعله حيال تقلص دوره على المسرح الدولي. فهو كان نصيبه ضئيلاً في بادئ الأمر، وعلى رغم ذلك ضاعف رهانه المحفوف بالأخطار [وبدلاً من محاولة تقليص خسارته الأولى ضاعفها]. ووقع وقع المفاجأة على بوتين تسريع الحرب ظواهر بادية منذ وقت طويل تفاقم تراجع روسيا وتنذر بتعاظم أفولها. فأوروبا تنزع إلى تقليل اعتمادها على روسيا، ما يؤدي إلى اضمحلال نفوذ روسيا في القارة وتناقص إيراداتها الحكومية التي تعتمد بشكل كبير على صادرات الطاقة.
والعقوبات الدولية غير المسبوقة والقيود على التصدير تقلص وصول روسيا إلى رأس المال والتكنولوجيا، ويؤدي هذا بدوره إلى تخلف موسكو أكثر في مجال الابتكار. وجادلنا قبل عام، في هذه الصفحات، بأن التقارير التي تفيد بتراجع روسيا مبالغ فيها، وأن روسيا تملك مقومات البقاء قوة ثابتة، أي للاستمرار دولة تواجه تحديات هيكلية لكنها لا تتخلى عن هدفها تهديد الولايات المتحدة وحلفائها، ولا تفتقر إلى القدرات اللازمة لتنفيذ هذا التهديد. وسلط غزو بوتين الكارثي الضوء على أخطار استبعاد تهديد من جانب روسيا، لكنه سرع تدهور البلاد. واليوم، تبدو التوقعات البعيدة المدى في شأن روسيا أكثر قتامة بالتأكيد.
وفي ضوء هذه العوامل، ثمة إغراء قوي بالتقليل من خطر التهديد الذي تمثله روسيا. وهذا موقف خاطئ، ليس فقط لأن الحرب لم تنته بالنصر بعد. وكلما أدركت موسكو أنها أكثر عرضة للخطر في أوكرانيا، وأماكن أخرى، حاولت التعويض عن نقاط ضعفها بواسطة التوسل بأدوات غير تقليدية، بما في ذلك الأسلحة النووية.
وفي عبارة أخرى، قد تضمحل قوة روسيا ونفوذها، بيد أن ذلك لن يؤدي إلى تقليص تهديدها كثيراً. وعوض ذلك، قد تتفاقم بعض عناصر هذا التهديد. واعتراف الغرب بهذا الواقع يعني تخليه عن الأمل في تخلص روسيا، على المدى القريب، من رعونتها، واضطراره إلى مواصلة تقديم الدعم لمن تستهدفهم روسيا. وينبغي أن يبدأ هذا الجهد في أوكرانيا. وعلى الولايات المتحدة وحلفائها تقديم دعم مستدام لكييف في سبيل ضمان إلحاق الهزيمة بروسيا. وإذا خسر بوتين، فالمشكلة التي تمثلها روسيا لن تحل، بل سوف تزداد حدة، ومن نواح كثيرة. وعليه، على المعالجة أن تكافئ المشكلة.
دفع فاتورة الحرب
وجهت الحرب في أوكرانيا ضربة إلى نفوذ روسيا الاقتصادي العالمي. ومن الثابت أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة ستة في المئة في العام الحالي، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وقد تكون هذه مجرد بداية، فالعبء الكامل المترتب على الإجراءات الغربية لم يبلغ مداه بعد.
وستحد القيود الغربية من قدرة موسكو على الوصول إلى تقنيات ومكونات رئيسة، وهذا يكبل اقتصادها الذي يعتمد على المدخلات والخبرات الأجنبية اعتماداً حاداً. وثمة من قبل علامات على صعوبات تعانيها صناعة السيارات والقطاعات التجارية الرئيسة الأخرى التي يتجلى فيها جلياً اعتماد روسيا على المكونات والعناصر الأجنبية.
إلى ذلك، باتت مكانة روسيا، كقوة رئيسة في مجال الطاقة، على كف عفريت. ولا شك في أن أوروبا ستواجه، في العقد المقبل، تحديات تأمين بدائل لإمدادات الطاقة التي كانت تستوردها من روسيا. وعلى المدى الطويل، ينبغي أن يتضاءل النفوذ السياسي الذي كان يعود على الكرملين من صادرات الطاقة، وأن تؤدي العقوبات الغربية، ومن المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في نهاية عام 2022، إلى حظر إصدار تأمين تجاري على ناقلات الشحن الروسية، ما يزيد خطورة المعاملات النفطية الروسية ويرفع كلفتها.
وفي غضون ذلك، تفرض دول مجموعة السبع سقفاً لسعر النفط الروسي. ومع الوقت، قد يضيق الخناق، ويجبر روسيا على عرض بيع نفطها بأسعار بخسة. وثمة دلائل متواترة على تراجع الصادرات الروسية، بالتالي تقلص إيراداتها. فاضطرت الحكومة الروسية إلى تقليص ميزانيات عدة وزارات بنسبة 10 في المئة. وستخفض أوروبا تدريجاً وارداتها من الطاقة الروسية، وبذلك يضيق هامش مناورة روسيا على التفاوض مع مستهلكين آخرين، مثل الصين والهند. وتعرضت روسيا إلى نزيف في المواهب أفقدها بعض أفضل العاملين فيها من مبرمجي الكمبيوتر والمهندسين والمتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، ولا بد من أن يحد من قدراتها التنافسية في المستقبل.
وعلى رغم أن هذه العوامل تعود بخسائر جسيمة على روسيا، فإن المدى الكامل للانكماش الاقتصادي الذي يلوح في الأفق وتأثيره، لا يزالان غير واضحين. ويتوقف مدى تأثير العقوبات وقيود التصدير، إلى حد بعيد، على نجاح الغرب في إنفاذ العقوبات والقيود، وعلى تمكن أوروبا من تقليل اعتمادها على الطاقة الروسية.
وسيعمل الكرملين، من جانبه، على الالتفاف على القيود، والعثور على حلول بديلة تقلل أضرارها. وستلجأ موسكو إلى المتاجرة بالسلع بشكل غير قانوني من طريق الشبكات التي تعبر بلداناً صديقة، مثل دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والعمل مع بلدان مثل الصين من أجل تطوير التقنيات بشكل مشترك. وسيكون من الصعب على روسيا الوصول إلى الكمية الكبيرة من المكونات المطلوبة التي تحتاج إليها قطاعات رئيسة من اقتصادها، مثل صناعة السيارات، لكنها قد تكون قادرة على تأمين التقنيات الضرورية للاستمرار في إنجاز برامج أسلحة مختارة.
وتجنباً لمواجهة انهيار كامل، سيتجه الاقتصاد الروسي على الغالب نحو التكيف مع ندرة الأشياء التي يحتاج إليها والاكتفاء الذاتي، والانفصال المطرد عن الاقتصاد العالمي. ومع تفاقم الظروف، سيستميت الكرملين أكثر، ويلجأ إلى وسائل غامضة أو غير مشروعة لتجنب [الخضوع] للقواعد التي تحكم التجارة العالمية ولم تعد تؤاتي مصلحته، وانتهاكها. وكلما زاد تهميش الكرملين وتهديده، تعاظمت صعوبة التكهن بسلوكه وكبحه.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا قبل الحرب، قوة عظمى ضعيفة نسبياً، تدين بتأثيرها العالمي إلى عوامل اقتصادية ضعيفة. إلا أن قدرتها على منافسة المصالح الأميركية كانت، في أحيان كثيرة، تفوق ما توحي به المؤشرات الاقتصادية الأولية.
وتميل روسيا إلى التصرف على نحو يتخطى حجمها، وما تسمح لها به قدراتها. وعلى رغم افتقارها إلى الحيوية، فهي لا شك تتمتع بالمرونة. ونزول الخسارة العسكرية بروسيا في بعض حروبها، لم يحل بينها وبين اضطلاعها بدور أساسي في ميدان الأمن الأوروبي. وسجل من هذا الصنف يقتضي ألا يفترض أن روسيا أضعف اقتصادياً هي حتماً أقل قدرة على تهديد مصالح الولايات المتحدة في الأعوام المقبلة.
نقص في العدد والعتاد
تعرض الجيش الروسي إلى ضربات عنيفة في أوكرانيا. واستهلكت الحرب الملايين من قذائف المدفعية وأتلفت كمية هائلة من المعدات الروسية، من براميل المدفعية إلى محركات الدبابات. وسقط أكثر من 80 ألف جندي روسي بين قتيل وجريح في المعارك. ونصيب الأفراد الذين جندوا في الأراضي الأوكرانية الخاضعة للسيطرة الروسية في دونيتسك ولوغانسك، والمقاتلين المتطوعين، من الخسائر البشرية التي تكبدتها قوات موسكو أخيراً كبير.
إلا أن الأيام المبكرة في الحرب شهدت سقوط كثير من أفضل العسكريين الروس. وفي الوقت الذي يواجه فيه الجيش الروسي نقصاً في العديد، يضطر بشكل متزايد إلى إخراج المزيد من المعدات القديمة من المخازن لتجهيز وحدات المجندين الجديدة. وعالجت موسكو هذه المشكلات بصورة تدريجية، ما سمح لقواتها أن تتدبر الأمر ببعض النجاح، لكن ذلك لن يحل المشكلات الأساسية في نهاية المطاف بينما تتردى جودة القوات.
وقد تعزز التعبئة قدرة روسيا على الاستمرار في الحرب، وتغذي إحساساً بعدم اليقين بما قد يحصل على المديين المتوسط والطويل، غير أن ذلك لا يعالج على الأرجح المشكلات الهيكلية التي يعانيها أداء روسيا العسكري. وبينما تحرم قيود التصدير روسيا من مكونات رئيسة، من مثل رقائق الكمبيوتر وعناصر الآلات الغربية، أرجئت برامج التسليح، وأجبرت موسكو على الأخذ بحلول بديلة باهظة الثمن. وتقلل هذه الإجراءات من جودة القطع التي تدخل في تركيب أنظمة الأسلحة، وتؤدي إلى تدني الثقة فيها وإلى إضعاف صناعة روسيا الدفاعية، مع مرور الوقت والحط بها.
ومع هذا، فعلى الغرب ألا يفترض أن الجيش الروسي سيصير منزوع الأذى في أعقاب حرب أوكرانيا. فالأرجح أن تجد روسيا طرقاً تتفادى بواسطتها القيود الغربية، نظراً إلى صعوبة تنفيذها. وقد لا تفلح موسكو في إنتاج بدائلها الخاصة للواردات، لكنها تتمتع بموهبة الالتفاف على قيود التصدير الغربية. فبعد ضمها غير القانوني شبه جزيرة القرم في عام 2014، وسعت روسيا الحصول على قطع غيار غربية الصنع لكثير من أسلحتها. وقد تتولى الصين تخفيف الضغط عنها.
وعلى رغم أن بكين كانت، ولا تزال، تتردد في تقوية التعاون العسكري الدفاعي مع روسيا، خوفاً من أن يعرضها ذلك إلى عقوبات أميركية جراء انتهاك العقوبات، فالغالب أنها ستعثر على طرق لدعم موسكو حين تخبو الأضواء الدولية المسلطة حالياً على أوكرانيا. وقد يشتمل هذا الدعم على توفير رقائق الكمبيوتر وغيرها من المكونات البالغة الأهمية.
وإلى هذا، لم تؤثر الحرب في جملة قدرات روسية تثير، أكثر من غيرها، قلق الولايات وحلف شمال الأطلسي (الناتو). فروسيا تبقى رائدة في مجال الدفاع الجوي المتكامل، والحرب الإلكترونية، والأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية، والغواصات، وغيرها من النظم المتقدمة. وعلى رغم أن روسيا، على ما بدا أولاً، لم تنفذ عمليات عسكرية سيبرانية خلال هجومها على أوكرانيا، فطبقاً لتحليل أجرته مايكروسوفت، قامت روسيا فعلاً بشن 40 هجوماً سيبرانياً مدمراً إلى حد ما على أوكرانيا في الأشهر الثلاثة الأولى من الغزو، بما في ذلك حملة إلكترونية عنيفة للغاية في أنحاء أوروبا من أجل منعها من الوصول إلى الأقمار الاصطناعية التجارية. ويبدو أن روسيا مارست بعض ضبط النفس على الجبهة [السيبرانية] تلك، وهي فعلت ذلك، على الغالب، جراء تصور بوتين أنه موشك على إحراز انتصار سريع يمكنه من احتلال البلاد في أعقاب ذلك.
أخيراً وليس آخراً، لا تزال روسيا تملك ترسانة نووية كبيرة، تفيد بعض التقديرات أنها من 4477 رأساً حربياً. وتبقى هذه الترسانة عنصراً مهماً في رسم معالم صناعة القرار [بشأن كيفية التعامل مع روسيا] لدى الولايات المتحدة وحلف الناتو.
ومع أن الجيش الروسي استثمر معظم موارده في الأسلحة التقليدية، فهو حافظ على ترسانة نووية تكتيكية فاعلة، وأنفق مليارات الروبل على تحديث قوته النووية الاستراتيجية. وعلى رغم الخسائر في الأسلحة التقليدية التي تكبدتها روسيا في أوكرانيا، تعتبر ترسانتها النووية تعويضاً منطقياً عن ضعفها في الأسلحة التقليدية وتشكل تهديداً معقولاً. فلا ينبغي لصناع السياسة الغربيين الافتراض أن روسيا كفت عن كونها خطراً على الأمن الأوروبي، ولا تخيل أنه لا يمكنها استعادة القدرات العسكرية التي فقدتها. فهي تحتفظ بقوة كامنة كبيرة، وبمرونة، وإمكان حشد الطاقات والجنود، وإن كان النظام الحالي تنقصه الكفاءة لاستغلال كل هذه الموارد. وهناك سبب يبرر بروز روسيا بهذا الشكل الواضح للغاية في الحروب على مدى قرون ماضية، فهي بلاد غالباً ما استعملت، أو أساءت استعمال القوة العسكرية القاطعة [المدمرة والحاسمة]، ثم تمكنت في آخر الأمر من استعادة قوتها هذه.
ما بعد بوتين
والحق أن الكرملين نفخ في شكل معتم وبغيض من “الوطنية” داخل روسيا، من أجل تبرير الحرب. وبث بوتين، وخبراء دعايته، رسالة مفادها أن الحرب في أوكرانيا هي في الواقع صراع حضاري مع الغرب الذي يسعى إلى إبقاء روسيا ضعيفة. وزعم هؤلاء أن روسيا تقاتل حلف الناتو في أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة وأوروبا تعملان على تفكيك روسيا. وعلى رغم أن استعمال خطاب معاد لأميركا من هذا النوع ليس جديداً، فتصوير الولايات المتحدة في صورة عدو تكتيك توسل به بوتين منذ وقت طويل، تتعاظم عدوانية هذا الخطاب والغضب الذي يضمره. وستستمر النبرة الصدامية والمعادية للغرب هذه طالما بقي بوتين في السلطة.
وتثار اليوم تساؤلات متجددة عن المدة التي قد يبقى بوتين في أثنائها في منصبه، وعلى الخصوص في أعقاب قرار التعبئة الجزئية في سبتمبر. وكان بوتين بذل جهوداً كبيرة، قبل الإعلان عن التعبئة، رمت إلى إبعاد ذوي الشأن الروس عن حربه في أوكرانيا. فرفع النظام الرواتب التقاعدية من أجل كسب ود ملايين المتقاعدين في البلاد، وأصر على أن “العملية العسكرية الخاصة” مستمرة “وفقاً للخطة” [المرسومة]. وجند أشخاصاً من المناطق الأكثر فقراً في روسيا، وفاقت حصة هذه المناطق من المجندين حصة مناطق أخرى. وسعى بوتين إلى الحصول على موافقة الروس السلبية، فيما استمرت الحياة كالمعتاد بالنسبة إلى كثيرين. ولكن، بإعلانه عن التعبئة الجزئية، فتح بوتين عيني المجتمع الروسي على الحقائق المروعة للحرب. وباتت قبضته على السلطة أضعف مما كانت عليه قبل قراره، ودعوته الروس إلى قبول حرب مديدة وعدوانية.
إلا أن التنبؤ بما يخلف غياب بوتين أكثر صعوبة [من رصد وضعه حالياً]. وقد حذر بعض المعلقين من أن زعيم روسيا المقبل قد تكون سياسته حيال الغرب أسوأ من سياسة سلفه. وهذا جائز من غير شك، لكنه قد يكون أقل احتمالاً مما يعتقد كثيرون. فبيانات أنظمة استبدادية شبيهة بالنظام الروسي توحي بأن خروج بوتين من منصبه، نتيجة للديناميكيات المحلية، يرجح أن يحصل بسبب انقلاب، أو احتجاج، أو وفاة طبيعية. ويستبعد أن يتجه المسار السياسي في روسيا اتجاها أكثر سوءاً من حيث الاستقرار والقمع، بل قد يشهد تحسناً.
وقد خلصت البحوث التي أجراها أحدنا (كيندال تايلور) مع إيريكا فرانتز، وهي متخصصة في العلوم السياسية، إلى أن وقوع الانقلابات والاحتجاجات الواسعة النطاق، والأشكال الأشد عنفاً من الصراع، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ليس مرجحاً في السنوات التي تلي تواري زعماء من هذا النوع عن المشهد، ولا يفوق رجاحته وهم لا يزالون في مناصبهم. والحق أن القمع يميل إلى الانحسار في أعقاب التغيير.
لكن على رغم أن الديناميكيات المحلية قد لا تتحمل الانفجار أكثر من احتمالها إياه من قبل، فمن المرجح أن يكون الاستبداد في روسيا أطول عمراً من عهد بوتين وأبقى. واستمر الاستبداد في حقبة ما بعد الحرب الباردة، بعد خروج قادة حكموا لوقت طويل، وذلك في نحو 75 في المئة من الأحوال، على تقدير كيندال- تايلور وفرانتز.
وعلاوة على ذلك، فهناك فرصة قوية لأن تبقى النخب التي تتبنى آراء مناهضة للغرب في السلطة. وحسب البحوث نفسها، يظل النظام على الأرجح على حاله بعد خروج زعيم ظل في منصبه مدة طويلة. وهذا احتمال يتحقق أكثر إذا غادر بوتين منصبه إما بسبب وفاة طبيعية أو انقلاب تقوم به النخبة. ومنذ غزو بوتين أوكرانيا، تعاظمت قوة المؤسسات الأمنية الروسية، ولا سيما جهاز الأمن الفيدرالي، خليفة جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي)، وازداد رسوخها. وكلما ازداد اعتماد بوتين على القمع للاحتفاظ بسيطرته على الوضع، اضطر إلى منح هذه الأجهزة مزيداً من الصلاحيات. وعليه، فالأجهزة الأمنية التي تغذت تاريخياً بأفكار معادية للولايات المتحدة والغرب، مهيأة للحفاظ على نفوذها بعد بوتين. وما لم يحصل تغير كبير في أوساط النخبة الحاكمة، بالتزامن مع رحيل بوتين، بقيت روسيا على موقفها الصدامي هذا.
مجروح ولكنه خطير
قد تواجه روسيا تحديات متزايدة، بيد أن الكرملين سيحاول أن يتأقلم مع هذا الوضع. وعلى وجه الخصوص، كلما زاد شعور بوتين بالضعف، نظراً إلى انكماش قوات روسيا التقليدية في أوكرانيا، رجحت كفة الاعتماد على الطرق غير التقليدية من أجل تحقيق أهدافه. ووقوع الكرملين في ورطة عسيرة تحد من خياراته، لا تشعره بالندم على محاولته زعزعة استقرار أعدائه بوسائل خارجة عن المألوف أحياناً، وفي مجالات مثل الأسلحة البيولوجية أو الكيماوية أو السيبرانية أو الذكاء الاصطناعي، وليس من اليسير فهم الطرق التي أدت إليها.
ومن المؤكد تقريباً أن الكرملين سيعمد إلى تنظيم حملات تضليل إعلامي، في المرتبة الأولى. وقد لمست روسيا مدى فاعلية حملات من هذا النوع. فهي أسهمت في القرارات التي اتخذها قادة في أفريقيا وفي أميركا اللاتينية والشرق الأوسط بالبقاء على الحياد في أعقاب غزو موسكو لأوكرانيا. ونجح اتهام موسكو أوكرانيا بارتكاب فظائع ارتكبها فعلاً الجنود الروس في الحرب، وإلقاء مسؤولية ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة على العقوبات الغربية وليس على الغزو الروسي، والإصرار على أن روسيا تخوض حرباً دفاعية ضد حلف الناتو المتمدد على الدوام، في تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إلى عدوانها العسكري.
وينتظر أن تتعاظم أهمية الهجمات السيبرانية في تعطيل الاتصالات والإدارة، كما توحي الحوادث الأخيرة في إستونيا وليتوانيا. ففي أغسطس، ورداً على إعلان تالين إزالة النصب السوفياتية من الأماكن العامة، استهدفت مجموعة قراصنة روسية ما يزيد على 200 مؤسسة حكومية، وخصوصاً في إستونيا، وذلك في أكبر موجة هجمات سيبرانية على إستونيا خلال أكثر من عشر سنوات.
وعلى النحو نفسه، استهدفت مجموعة القراصنة ذاتها مؤسسات حكومية، في ليتوانيا على الخصوص، في يونيو (حزيران)، بعد أن فرضت حكومتها على عبور البضائع إلى كاليننغراد قيوداً كان الاتحاد الأوروبي أقرها، علماً بأن هذه منطقة روسية تقع بين ليتوانيا وبولندا، وتعتمد على السكك الحديدية والطرق الليتوانية للحصول على ما تحتاج إليه من إمدادات.
غير أن الأمر الأشد خطورة هو احتمال أن يؤدي تعاظم الأضرار التي تصيب الجيش الروسي في أوكرانيا إلى ترجيح اللجوء إلى تصعيد نووي، والتعويض عن تفوق حلف الناتو في أوروبا. ويبدو الجيش الروسي أكثر قبولاً لفكرة استخدام أسلحة نووية تكتيكية، مقارنة بنظرائه الغربيين.
ولا شك في أن استخدام الأسلحة النووية قرار سياسي، لكن معظم القرائن تدل على أن القيادة السياسية الروسية قد تفكر في استخدام سلاح نووي تكتيكي إذا لحقت بها هزيمة قد تهدد النظام أو الدولة. ومن شأن أزمة أو صراع في المستقبل مع حلف الناتو أن يتيحا لموسكو خيارات تقليدية قليلة قبل أن تلوح باستعمال أسلحة نووية، أو تلوح باحتمال استعمالها، فتقلص الطريق إلى حرب نووية.
وتعاظم أهمية الأسلحة النووية غير الاستراتيجية (أو التكتيكية) في نظر الجيش الروسي يعني أن روسيا أقل قبولاً اليوم منها في أي وقت مضى [لفرض] حدود على ترسانتها النووية بواسطة التفاوض. وهذا موقف مشكل في صورة استثنائية لأن روسيا تملك ترسانة نووية أكثر تنوعاً من تلك التي تملكها الولايات المتحدة، وتضم نماذج مختلفة لأسلحة غير استراتيجية.
والظاهر أن عقيدتها العسكرية تجعلها أكثر استعداداً لاستخدام هذه الأسلحة في نزاع محتمل. والعداء القائم، في مجلس الكونغرس الأميركي، حيال روسيا وسجلها في مجال انتهاكات المعاهدات التي توقعها، يقلل من إمكانات التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا على بديل يحل محل معاهدة ستارت الجديدة، حين تنتهي صلاحيتها في عام 2026.
وفي غياب اتفاق ما، لن يكون هناك من رادع لطاقة روسيا على إنتاج أسلحة نووية استراتيجية ونشر أنظمة جديدة. وستفقد الولايات المتحدة إجراءات مراقبة ترسانة روسيا النووية الاستراتيجية. ويذكر أن الصين تحدث ترسانتها النووية كذلك. وعليه، تجد الولايات المتحدة نفسها تتعامل مع قوتين نوويتين، كلاهما أفلتت من عقالها، واصطفت الولايات المتحدة تهديداً أساسياً لها.
خطر الرضا عن النفس
وينبغي أن يبدأ في كييف أي جهد معقول لمواجهة موسكو. والحق أن الدعم الذي قدمته، إلى اليوم، الولايات المتحدة والدول الأوروبية لأوكرانيا كان رائعاً. فالولايات المتحدة وحدها قدمت مساعدات تفوق قيمتها 45 مليار دولار (نحو 39.55 مليار جنيه استرليني). وساعد هذا الدعم أوكرانيا ليس على الدفاع عن نفسها وحسب، بل على شن هجوم مضاد لاستعادة أراض احتلتها القوات الروسية. ومع ميل الزخم إلى صف كييف، حان الوقت لزيادة المساندة، وتوفير الأسلحة التي تحتاج إليها أوكرانيا، في الأقل لعودتها إلى حدودها قبل الغزو. وكل ما دون هذا من شأنه أن يرجح احتمال اندلاع حرب أخرى في وقت لاحق.
ونجاح أوكرانيا والغربيين الذين يدعمونها، نجاحاً ساطعاً، لا يبدد بقاء روسيا تحدياً دائماً للأمن الأوروبي. وحرب روسيا هي في صميمها، محاولة إمبريالية تضرب بجذورها في تداعي الاتحاد السوفياتي، وانهياره الذي لا يزال مستمراً.
ويشير بعض المؤرخين، محقين، إلى أن من الصواب النظر إلى تفكك الاتحاد السوفياتي على شاكلة عملية متواصلة، على وجوه مختلفة، إلى اليوم، عوض حمله على حادثة ماضية تامة. وليست الحرب في أوكرانيا غير حلقة في سلسلة نزاعات رافقت عملية التفكك هذه. والافتراض أن هذه الحرب هي أشبه بنزع موت الإمبريالية الروسية المحتضرة الأخير، أو الظن أن روسيا سرعان ما ستتخلى، في ظل زعيم آخر، عن الرغبة في الانتقام وتنخرط انخراط صاحب مصلحة في الأمن الأوروبي، الافتراض والظن هذان متفائلان وفي غير محلهما.
وتترتب على حرب موسكو تداعيات مضاعفة تتفتق عن أخطار جديدة تتهدد سياق العلاقات الغربية مع روسيا. وعلى سبيل المثال، سيؤدي انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وهو نتيجة مباشرة للهجوم الروسي على أوكرانيا، إلى زيادة التوترات الأمنية مع روسيا في منطقتي البلطيق والقطب الشمالي. وعضوية البلدين في الناتو تعزز الحلف، وتعني التزامه الدفاع عن حدود جديدة، وتطوير خطط طوارئ أخرى.
وإلى ذلك، من المرجح أن تبالغ روسيا، وهي ترى أن قواتها التقليدية ضعيفة، في رد فعلها على الإجراءات الغربية، وهذا يصدق، في شكل خاص، على الوضع في أعقاب فشل روسيا في أوكرانيا، وقد يدفع الكرملين إلى البحث عن فرص تتيح له إثبات قوة روسيا ومناعتها، ورهبة جانبها. وتنشأ عن أحوال من هذا الصنف تحديات جديدة على حلف الناتو أن يتدبرها ويصرفها.
وليست روسيا في وضع يمكنها معه أن تبدأ حرباً أخرى اليوم، ولا شك في أنها عاجزة عن خوض حرب مع حلف الناتو، لكن هذا لا يعني أن في وسع صناع السياسة الغربيين الرضا عن أنفسهم. نعم، ستستغرق روسيا الشطر الأكبر من عقد من الزمن في ترميم قواتها التقليدية، والتعويض عما خسرته منها وتحسينها، في أعقاب هجومها على أوكرانيا.
ويشكو حلف الناتو من مشكلاته الخاصة التي تدعوه إلى ترميم قواته كذلك. وتحتاج دول الحلف إلى سنوات تعوض في أثنائها استهلاك الأسلحة والذخائر التي أرسلتها إلى أوكرانيا في الحرب، وتجددها. وسترتفع الخسائر [في المعدات] إذا طالت الحرب، على غالب الظن. وليس أقل أهمية من هذا عدم التخطيط لخوض الحرب السابقة. فعلى حلف الناتو أن يفكر في أفضل السبل لمواجهة الجيش الروسي [الجديد]، المولود في نهاية المطاف من هذه الحرب بعد سنوات من اليوم، وأن يبتكر أساليب تتلاءم مع الوضع المستجد. ونظراً إلى إخفاقات روسيا التي أظهرتها الحرب، من المرجح ألا تسعى في بناء جيشها على النمط ذاته، بهيكله الهش، وتدريباته الضعيفة، وموارده اللوجيستية الهزيلة.
وجادل بعضهم بأن أداء روسيا الضعيف في أوكرانيا يسوغ ترك الولايات المتحدة أوروبا تضطلع بالتعامل مع التحدي الروسي، ما يتيح لواشنطن أن تركز على بكين. والحق أنه إذا كان ثمة أثر للصحة في المسألة، فالعكس هو الصحيح، فهذه الحرب تذكير صارخ بما يجب أن يبقي شطراً كبيراً من الدفاع عن أوروبا على عاتق الولايات المتحدة. فالقدرة على استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع تعني حل مسائل اللوجيستيات، والقيادة والسيطرة، والاتصالات لمئات الآلاف من الجنود.
وعلى الدول الأوروبية، إذ ذاك، أن تتولى وحدها القيام بعمليات واسعة النطاق في وجه حملة روسية مماثلة، من حيث الحجم، لتلك التي تشنها موسكو على أوكرانيا. ومن السذاجة الاعتقاد أن في مستطاع دولة أوروبية النهوض بأعباء التكامل والتمكين، ووظائف الدعم المهمة الأخرى التي تتولاها الولايات المتحدة حالياً. والتخطيط الدفاعي الذي يتصور إلقاء واشنطن مسؤولية التصدي للتحدي الروسي على كاهل أوروبا، في العقد المقبل، يرقى إلى مستوى التمني والرغبة.
وتؤكد الحرب الروسية على أوكرانيا النهج الذي يحكم [نتائج] الحروب الكبرى، في نهاية المطاف، وهو يقوم على الاستنزاف، والقدرة على استبدال العديد والعتاد، والذخيرة المستعملة. ويعاني حلف الناتو عجزاً في هذه الأبواب كلها. وكان الأرجح أن يضطر جيش أوروبي إلى الخروج من الميدان في وقت قصير لو أصيب بجزء من الخسائر التي تكبدتها القوات المسلحة الروسية أو الأوكرانية.
ولدى الناتو مخزون ضئيل من الأسلحة الحديثة. وغالباً ما تملك الجيوش منصات باهظة الثمن ويصعب استبدالها، وقدرة صناعية دفاعية تكافح من أجل زيادة الإنتاج. وكشفت الأشهر الستة الماضية من الدعم لأوكرانيا عن ثغرات كبيرة في قدرة الغرب على إنتاج الذخيرة وقطع الغيار الرئيسة. وحمل أوروبا على فعل المزيد من أجل الدفاع عن نفسها هدف نبيل، ولكن الأمر يستغرق سنوات، وربما عقوداً من الزمن، قبل بلوغه.
ضرورات التقييد والكبح
ولا شك في أن روسيا لن تكون صاحبة مصلحة في الأمن الأوروبي، في عهد بوتين. وأظهر الكرملين ضلوعه في الثأر الإمبريالي فوق حرصه على الاستقرار الاستراتيجي. وعليه، يجب على واشنطن وحلفائها الاستمرار في جهد الحد من أخطار التصعيد، وعلى الخصوص في ما يتعلق باستعمال أسلحة نووية تكتيكية، وتقليص قدرة روسيا على شن حرب.
وعلى رغم أن واشنطن علقت، وهي في ذلك على حق، حوارها في شأن الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي مع روسيا، فيتعين عليها أن تحافظ على التواصل الاستراتيجي مع موسكو من أجل تفادي حصول مواجهة نووية، ولكن على الولايات المتحدة وحلف الناتو التخطيط [للتعامل مع] اعتماد روسيا المتزايد على التكتيكات غير التقليدية، بما في ذلك احتمال لجوء روسيا، على نحو متعاظم، إلى التهديدات النووية، وقد تكون على استعداد للتعقيب عليها باستخدام سلاح نووي.
وفي غضون ذلك، على واشنطن السعي في تقييد روسيا وكبح جماحها إلى شن عدوان خارج حدودها. ويتطلب تردي القوة الروسية من واشنطن أن تبني على السياسات التي اختطتها في أعقاب غزو بوتين لأوكرانيا. وعلى وجه الخصوص، على الولايات المتحدة أن تستمر في مساعدة أوروبا على الفطام من النفط والغاز الروسيين، وإعادة إنتاج الأسلحة التي منحتها لأوكرانيا.
ويكتسب إنفاذ واشنطن وحلفائها العقوبات، والقيود على التصدير، وإجراءات مكافحة الفساد المقررة ضد روسيا، أهمية حاسمة. وهناك بالفعل أدلة على أن روسيا تتحايل على هذه الإجراءات. وعلى الغرب الحيلولة دون ذلك. ويقتضي تقييد واشنطن وحلفائها الأوروبيين موسكو الحفاظ على انخراطهم مع الهند والدول الأخرى، في أفريقيا والشرق الأوسط، التي تتخذ موقفاً حيادياً [حيال الحرب في أوكرانيا]، لا سيما أن هذه الدول توفر شريان حياة لروسيا. وهذا يعني صرف المزيد من الاهتمام إلى جنوب الكرة الأرضية، حيث تتمتع روسيا بنفوذ أقوى، وتستطيع معارضة الرواية [الغربية].
لكن على المدى الطويل، للولايات المتحدة وأوروبا مصلحة مشتركة في ترسيخ استقرار العلاقة مع روسيا. ولن يكون ذلك ممكناً طالما بقي بوتين في السلطة. ولكن، على نحو أو آخر، ثمة روسيا مقبلة ما بعد بوتين. ويتيح التغير في القيادة، وخصوصاً في روسيا حيث النظام السياسي مطبوع بطابع شخصي جداً، فرصة إرساء الحمايات على متانة العلاقة.
وعلى رغم أن أي زعيم روسي، في المستقبل، لن ينفك عازماً على استعادة نفوذ روسيا على الصعيد العالمي، وخصوصاً على أطرافها، فمن الواضح أن أوكرانيا كانت هاجساً بوتينياً خاصاً. وقد تلقن هزيمة روسية مدوية في أوكرانيا النخب الروسية القادمة درساً قيماً في حدود القوة العسكرية. وقد يثير تعاظم تبعية روسيا لبكين رغبة زعيم مستقبلي في خيارات سياسة خارجية أقل عدائية تجاه الغرب. وقد تتغير الثقافات الاستراتيجية مع مرور الوقت، بما في ذلك الاستجابة إلى هزائم كبيرة.
فعلى واشنطن وحلفائها مواجهة موسكو من دون التفريط بقيمهم. وهذا يعني التفكير المتأني في تشخيص المسؤولية المشتركة، وفي أشكال العقاب الجماعي. وينبغي على الحكومة الأميركية أن تساعد، بشكل فعال، أفراد المجتمع الروسي في المنفى، بمن فيهم الصحافيون والناشطون وغيرهم من الروس الذين يؤيدون بناء روسيا أكثر حرية وديمقراطية، من خلال توفير زمالات مهنية في الولايات المتحدة للمضطهدين من المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين، على سبيل المثال، ومعالجة وجوه النقص في تنفيذ سياسات مكافحة الفساد والعقوبات التي تسبب أضراراً جانبية للعاملين المضطهدين في المجتمع المدني.
ونظراً إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها يتعاملون مع نظام بوتين القائم ويفكرون بما قد يخلفه، فعليهم أن يتذكروا القول المأثور القديم إن روسيا ليست قوية كما تبدو ولا ضعيفة. فالبلاد غالباً ما تمر بدورات انتعاش وركود وانحدار.
ومع تضاؤل قدرتها ومكانتها العالمية بسبب حربها في أوكرانيا، ستبقى مشاعر الاستياء والسعي إلى الحصول على فضاء استراتيجي خارج حدودها، والرغبة في تبوؤ مكانة خاصة، تشحذ همة روسيا وتحفزها. ولا يسع واشنطن أن تتحمل [كلفة] شطب روسيا والاطمئنان بعدها إلى غيابها. وعليها ألا تتخيل أن في مقدور أوروبا تدبر المشكلة لوحدها، فقد يتطور التهديد لكنه لن يتبدد.
*أندريا كيندال- تايلور زميلة أولى ومديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز الأمن الأميركي الجديد.
**مايكل كوفمان مدير برنامج البحوث لبرنامج الدراسات الروسية في مركز التحليلات البحرية وزميل أول مساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد.
مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2022
المصدر: اندبندنت عربية