بعد فتح الأندلس تلاشت كل مظاهر الدولة القوطية خلال فترة قصيرة لاتتجاوز ستة سنوات، وانسحبت النخب القوطية العسكرية والأرستقراطية والدينية نحو أقصى الشمال في أستورياس الجبلية الوعرة والتي تحيط بها أراض جرداء قليلة السكان وشبه معزولة وتمكنت هناك من البقاء وتأسيس كيان مستقل بفضل الطبيعة الصعبة للإقليم وابتعاده عن المدن الرئيسية في اسبانيا وافتقاره لأي إغراء باستمرار القتال لأجل السيطرة عليه .
أما بقية الأندلس فقد انتشر فيها الإسلام انتشار النار في الهشيم , ولم تمض سنوات قليلة حتى أصبحت غالبية السكان الكبرى معتنقة للإسلام دون إكراه .
كتب السير توماس أرنولد في كتابه ” بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية ” يتحدث عن تسامح العرب المسلمين بعد فتح الأندلس :
” أما عن حمل الناس على الدخول في الاسلام , أو اضطهادهم بأي وسيلة من وسائل الاضطهاد , في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي , فإننا لانسمع عن ذلك شيئا , وفي الحق فإن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد , وإن الشكوى الوحيدة التي شكى منها المسيحيون هي فرض الجزية عليهم , والتي كانت تبلغ 48 درهما عن الأغنياء , و24 درهما عن الطبقة الوسطى , و12 درهما عن العمال مقابل اعفائهم من الخدمة العسكرية , على أن هذه الجزية لم تفرض الا على القادرين من الرجال , في حين أعفي منها النساء والأطفال والرهبان والمقعدون والعميان والمساكين والمرضى والأرقاء , مع العلم بأن الموظفين المكلفين بجمع الضرائب كانوا من المسيحيين أنفسهم مما خفف وطأتها على الناس ”
. (1)
لعل أول الداخلين للاسلام بعد الفتح الاسلامي كانت طبقة الأرقاء أملا في تغير أوضاعهم البائسة , فتحولهم للاسلام في ظل دولة مسلمة كان يعني تغيراً نوعياً في وضعهم الطبقي والانساني وعلاقتهم بأسيادهم المسيحيين , ويبدو أن تلك الطبقة كانت تضم عددا هاما نسبيا من السكان وقسم منها كان لايزال وثنيا , فالرومان لم يسعوا قط لفرض المسيحية على السكان بل ربما دخلت المسيحية اسبانيا قبل سيطرة الرومان عليها وانتشرت فيها على يد المسيحيين الأوائل الى جانب العقائد القديمة المرتبطة بالفينيقيين واليونان .
ومن أجل تصور مدى الاضطهاد والظلم الذي كان يحيق بطبقة الأرقاء أستعير هنا فقرة للمؤرخ الهولندي المشهور دوزي في وصفه لحياة طبقة الرقيق في عصر القوط : ” ..يستحيل على العبد أو القن أن يتزوج دون رضى مولاه , ويبطل زواجه إن تم بغير الحصول على موافقة سيده , ويحال بينه وبين امرأته بالقوة , وإذا اقترن أحد الأرقاء بامرأة في خدمة سيد آخر , تقاسم السيدان بالتساوي الأولاد الناتجين عن هذا الزواج , وكان قانون القوط الغربيين في هذه الأحوال أقل إنسانية من قانون الامبراطورية الرومانية , ذلك أن الامبراطور قسطنطين الأول حرم فصل النساء عن أزواجهن , والأولاد عن أبويهم والأخوة عن أخواتهم , وعلى وجه العموم , فليس يخامر أحدا الشك في أن وضع طبقة الرقيق لم يكن محتملا أيام القوط , ويتجلى ذلك عندما يتأمل الانسان قوانينهم الفظة تجاه العبيد .” (2)
كما انتقلت للاسلام بسرعة أيضا فئة من أشراف المسيحيين سواء عن قناعة أو ربما لتضمن الحفاظ على مصالحها بالتقرب من السلطة الحاكمة .
ويذكر المؤرخون وجود المذهب المسيحي الآريوسي في اسبانيا قبل الفتح الاسلامي وتأثيره الفكري كعامل سهل التحول نحو الاسلام , فالمذهب الأريوسي لايؤمن بأن المسيح ابن حقيقي لله بل كما يقال ابن بالتبني بمعنى أنه إنسان اختاره الله ليكون بمثابة ابن له وذلك يقترب من الفكرة الاسلامية عن المسيح .
ويستفاد من الروايات التاريخية أن رجال الدين المسيحيين كانوا يشتكون من تفشي الانحلال الخلقي خاصة عند الطبقة القوطية الحاكمة وانغماسها في الترف والمتع المادية مقابل معاناة الطبقات الوسطى والفقيرة والأرقاء من الاستغلال والأوضاع الاقتصادية الصعبة . ولعلهم وجدوا في الاسلام والمسلمين نافذة خلاص لهم , ومما يدعم ذلك الرأي الاستقرار الواضح للحكم العربي – الاسلامي , يقول سير أرنولد توماس : ” ومن الثابت لدينا أن هؤلاء المسيحيين الذين مالوا للصلح ورضوا عن طيب خاطر بحرمانهم ماكانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي وسلطة , لم يكن ثمة مايدعوهم للشكوى , حتى إننا لم نسمع خلال القرن الثامن الميلادي كله الا عن محاولة واحدة للثورة من جانب هؤلاء المسيحيين المقيمين بمدينة باجة , ويظهر أنهم انضووا في ثورتهم هذه تحت لواء رئيس عربي ” وتبدو الاشارة هنا الى ثورة علاء بن المغيث الذي ارسله العباسيون لتقويض سلطة عبد الرحمن الداخل عام 146 وكان عاملا على مدينة مدينة باجة ومن الواضح أن ذلك التمرد كان عملا سياسيا بالدرجة الأولى ولا يمكن النظر اليه كتعبير عن ثورة مسيحية خاصة مع وجود علاء بن المغيث على راس ذلك التمرد مع جيشه العباسي .
وما يستحق الوقوف عنده هو الحجم الصغير للقوى العسكرية العربية – الاسلامية التي سيطرت على شبه الجزيرة الايبرية فعند الفتح كانت حوالي 12000 مقاتل فقط وربما زاد عددها بعد ذلك لكنها لم تصل في السنوات الأولى لأكثر من 30 الف مقاتل كان مطلوبا منها السيطرة على مساحة حوالي 600000 كم2 بوجود بضعة ملايين من السكان في حين قدر جيش القوط بقيادة لذريق الذي واجه طارق بن زياد قرب نهر برباط وفق المصادر العربية بمئة الف رجل بينما تشكك المصادر الغربية بذلك الرقم .
يقول ليفي بروفانسال في كتابه ” تاريخ اسبانيا الاسلامية ” في معرض حديثه عن الفتح العربي – الاسلامي وتفسيره لذلك الفتح الذي وصف بالمعجزة وعلاقته بالأوضاع الاجتماعية والسياسية لدولة القوط الآتي “وبرغم كل هذا , لايوجد مثال واحد في التاريخ يخبرنا بأن دولة منظمة قد تركت في استكانة أراضيها تغتصب من قبل بعض فصائل الفرسان الشجاعة , لو كانت تنعم بالصحة وهيكلها سليم معافى , ولحكامها الهيبة والطاعة , فالفتوحات الكبرى قد صادفت دائما تحللا سياسيا واجتماعيا للأمم التي هبطت فوقها …وهذا ماحدث بالفعل لأسبانيا القوطية “(3) لكن السيد بروفانسال نسي عاملا على غاية من الأهمية وهو الفارق السوسيولوجي – الثقافي بين القوط والايبريين والذي لم يتم اختراقه بسبب انغلاق القوط ولغتهم المختلفة واعتناقهم المذهب الأريوسي معظم فترة حكمهم لايبريا .
وتشبه حالة القوط في اسبانيا من عدة وجوه حالة حكم المماليك في مصر وسورية من سنة 1250م إلي سنة 1517 م. فهم كانوا بالأساس نخبا عسكرية أجنبية عن أهل البلاد استمدت شيئا من الشرعية من خلال المؤسسة الدينية , لكنها بقيت مغلقة على نفسها الى حد كبير , ودعمت وجودها بجالية محدودة العدد من أبناء جنسها أو من عشائر قريبة لها كانت تحيط بها في مراكز الدولة واداراتها .
وحين بدأ الانحلال يصيب تلك الإمارات المملوكية لم تجد الى جانبها الشعب في بلاد الشام أو مصر , بل وقف يتفرج على مصيرها النهائي مستبشرا بالخلاص من فسادها على يد القادم الجديد كما حصل عند دخول سليم الأول العثماني حلب وحماة وغيرها من مدن الشام بعد معركة مرج دابق عام 1516م التي انهزم فيها السلطان قانصوه الغوري آخر حكام المماليك .
( 1 ) بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية – سير أرنولد توماس – ص 157
( 2 ) تاريخ إسبانيا الإسلامية من الفتح الى سقوط الخلافة القرطبية – ليفي بروفانس – ص 44
( 3 ) كالسابق – ص – 74