ما يسمّى بالأقليات القومية في الوطن العربي ، ليس إلا ظاهرة اجتماعية طبيعية أفرزتها حركة التطور الاجتماعي للأمة العربية خلال مسيرة تكوينها القومي تاريخياً .. ظاهرة طبيعية موجودة بكل المجتمعات البشرية .. تكاد لا تخلو دولة من دول العالم المعاصر من وجودها .
إلا أن وجودها في الوطن العربي تحول إلى مشكلة مزمنة .. تثور أو تثار بين مرحلة وأخرى ، لأسباب مختلفة ، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي .
ومهما اختلفت وتعددت الأسباب ، فإن وراءها إشكالية فكرية تتعلق بفهم طبيعة الظاهرة ونشأتها تاريخياً ، ذلك الفهم الذي أضفى نوعاً من الشرعية على كل الانعكاسات السلبية الناجمة عن وجود الظاهرة .
ولفهم طبيعة الظاهرة وحقيقتها ، لا بد من تحديد مفهوم الأقلية القومية :
بكل بساطة : الأقلية القومية هي جزء من أمة اقتُطع ( أرضاً وشعباً ) بمرحلة تاريخية معينة من أمته الأصلية وموطنه الأصلي بأسلوب ما ، وألحق سياسياً بدولة مجاورة ، فأصبح خاضعاً لسيادتها .. مقطوع الصلة بأمته الأصلية .
– وفقاً لهذا المفهوم فليس في الوطن العربي أية أقلية قومية إطلاقاً ، أي ليس داخل حدود الوطن العربي القائمة حالياً أية أقلية قومية مقتطعة من دولة مجاورة .
– وما يطلق عليها الأقليات القومية حالياً ( أكراد ، آشوريون ، أمازيغ ، …. ) فهي حقيقة ليست أقليات قومية ، إنها تشكيلات اجتماعية ( ليست غريبة عن الوطن العربي ) ، بل تمثل جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي في الوطن العربي تاريخياً .. تشكيلات اجتماعية قبلية أو شعوبية موجودة تاريخياً في المنطقة منذ القدم ، قبل بزوغ فجر الإسلام في قلب الجزيرة العربية بحقبة زمنية طويلة ، عاصرت مسيرة التكوين القومي للأمة العربية بكل مراحلها ، تلك المسيرة لتي عملت ثورة الإسلام على :
1- تسريع خطاها بإزالة كافة العقبات وتوفير شروط استكمالها داخلياً وخارجياً .
2- إطلاقها بالفتوحات الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية شمالاً وغرباً ، لتشمل كل بقاع الوطن العربي بحدوده الحالية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي .
وقد شاركت هذه التشكيلات الاجتماعية بعملية الجدل الاجتماعي ضمن مسيرة التكوين القومي للأمة العربية ، منذ أن وصل الفاتحون العرب المسلمون الأوائل ديارها ، وباعتبارها آنذاك لا تزال في الطور القبلي أو الشعوبي دون المستوى القومي ، يفترض أن تتعرب ويكتمل تعريبها قومياً لمواكبتها تاريخياً مسيرة التعريب ، كما تعرب غيرها من قبائل وشعوب المنطقة ، إلا أنها لأسباب موضوعية ، تخلفت عن مواكبة المسيرة فبقيت قبائل أو شعوب ( متخلفة قومياً ) .. بمعنى أنها لم يصل أي منها إلى الطور القومي ، وقد تخلفت أو تأخرت عن مسيرة التعريب ولم تتعرب .
– ومن مظاهر تخلفها عن مسيرة التعريب احتفاظها ببعض السمات والقسمات الخاصة بها من لغة وثقافة وعادات وتقاليد ، فبدت للبعض أنها تشكيلات قومية متميزة مختلفة عن القومية العربية ، وأبرز هذه السمات والقسمات الخاصة هي لغاتها الخاصة ، وهي فروع من اللغات السامية ذات الأصل الواحد ، التي كانت منتشرة على امتداد الأرض العربية قبل أن تسود اللغة العربية كلغة قومية مشتركة فرضتها جدلية الانصهار القومي ، واللغة العربية إحدى فروع هذه اللغات ، إلا أنها تمثل آخر مراحل التطور في اللغات السامية ، وهذا ما أهلها لتكون اللغة القومية المشتركة للأمة العربية ، إذ لم يجد أي من المتكلمين بهذه اللغات الفرعية أية صعوبة بفهمها واستيعابها وتقبلها ، خاصة بعد أن عزز الإسلام مكانتها بقدسية القرآن الكريم ، وتجاوز بها من لغة للعبادة الدينية باعتبارها لغة القرآن إلى لغة للحياة المشتركة بكل نشاطاتها ، بالتالي جعلها وعاءً للثقافة المشتركة وأداة من أدوات الإبداع الحضاري ، حتى عند من لم يعتنقوا الإسلام من أبناء الأمة العربية .
– ومثل هذه التشكيلات المتخلفة قومياً موجودة بكل المجتمعات القومية المعاصرة ، أوجدتها آلية وحتمية قوانين التطور الاجتماعي التي تضبط حركة التطور التاريخي للمجتمعات البشرية ، وهي حصيلة عدم اكتمال التجانس الاجتماعي بجدلية الانصهار القومي التاريخية ، وهي ظاهرة طبيعية لا بد من حصولها ، إذ لا يمكن أن يكتمل هذا التجانس طفرة نوعية بلحظة تاريخية محددة وعلى سوية واحدة لدى كل الشعوب والقبائل التي خضعت لجدلية التكوين القومي ، وذلك يعود لأسباب وعوامل مختلفة .. اجتماعية وثقافية واقتصادية ودينية ، بل أبرزها جغرافية ، حيث تتواجد مثل هذه التشكيلات عادة بمناطق جغرافية نائية معزولة عزلة شبه تامة ( الجبال والصحاري والأرياف والغابات ) ، بعيدة عن دوائر التفاعل والجدل الاجتماعي المباشر مع التجمعات البشرية الأخرى ، وخاصة التجمعات الحضرية ، والتجمعات الحضرية بكل الأمم هي الأكثر تفاعلاً واستجابة والأسرع تأثراً وتأثيراً بعملية الجدل الاجتماعي أياً كان مضمونه .
– قد يحتج البعض بانتماء هذه التشكيلات إلى أصول عرقية تختلف عن الأصل العرقي لباقي أبناء الأمة ، ولنعترف جدلاً بصحة ذلك .. إلا أن ذلك لا يصح مقياساً ولا دليلاً يحتج به على قومية هذه التشكيلات ، إذ ليس كل المنتمين لأية قومية واحدة ينتمون إلى أصل عرقي واحد ، إلا نظرياً عند أنصار النظرية العرقية في القومية ، حيث اختلطت الأجناس البشرية إلى درجة الاستحالة المطلقة بالفرز القومي على أساس الأصول العرقية .
– وقد ساهمت حالة التخلف الحضاري التي سادت في الوطن العربي منذ سقوط الدولة العباسية بترسيخ هذه الظاهرة والحفاظ على وجودها ، وعززتها موجات العدوان والغزو الخارجي المتلاحقة التي اجتاحت الوطن العربي بمحاولة استخدامها كأدوات لتمزيق النسيج الاجتماعي للأمة العربية ، مثلما ساهمت سياسة الإهمال والتهميش التي انتهجتها الأنظمة الحاكمة المتعاقبة بتصعيد الظاهرة وتحويلها إلى مشكلة تحتاج إلى حل تثور بين مرحلة وأخرى ، كذلك سياسة القمع والاستبداد حيث ولـّدت لدى أبناء هذه التشكيلات شعوراً كامناً ورغبة بالانفصال عن كيانات الدول الاستبدادية التي يخضعون لها .
– وإن فكرة الانفصال التي تجول بأذهان البعض منها ، أو التي يسعى إليها البعض الآخر ، ليست إلا فكرة عدائية مرفوضة بكل المعايير ، فالأرض لم تعد ملكاً لفئة أو لأي تشكيل اجتماعي أو لأي جيل من أجيال الأمة ، إنها ملك تاريخي مشترك لكل أبناء الأمة بكل أجيالها ، وبكل مكوناتها وكل تشكيلاتها الاجتماعية .
– وإن تمكن البعض منها من الانفصال بمرحلة ما تحقيقاً لقوميته الموهومة .. قسراً وبدعم من الخارج تحت ذريعة القانون الدولي وحق تقرير المصير مثلاً ، فذلك وفقاً لقوانين حركة التاريخ الموضوعية يعتبر اغتصابٌ لجزء من الأرض المشتركة للأمة .. ومن حق الأمة ككل مقاومته حفاظاً على وحدة الأرض المشتركة .
وقد استقرت عملية التكوين القومي للمجتمعات البشرية ، ليس في المنطقة فحسب بل على مستوى العالم أجمع ، وبدأت مسيرة التطور التاريخي للمجتمعات التي استكملت تكوينها القومي – بإقامة دولها سياسياً بما يتطابق مع حدود وجودها الاجتماعي – تشرف على نهاية الطور القومي من أطوار التكوين الاجتماعي ، باتجاه طور جديد قادم ، إنه طور ما فوق القومية ، طور يتضمن القومية ولا يلغيها ، ولم تعد قوانين التطور التاريخي تسمح لهذه التشكيلات الاجتماعية المتخلفة قومياً باستكمال مسيرة تطورها نحو قوميات خاصة بها ، وخيارها الوحيد هو الاندماج في المجتمع العربي كمكونات أساسية من مكونات نسيجه الاجتماعي .
أخيراً :
نعم هناك أقليات ( غير عربية ) جاءت من خارج حدود الوطن العربي ، جاءت بمراحل تاريخية مختلفة برفقة الجيوش الغازية ، أو جاءت عن طريق الهجرات الفردية أو الجماعية لأسباب مختلفة ، استقرت في الوطن العربي وقبلتها الأمة العربية .. احتضنتها وعاملتها وتعاملت معها بكل إيجابية وإنسانية ، مثل الأرمن والشركس والشيشان والتركمان وغيرهم ، ومثل هؤلاء لا يثيروا أية إشكالية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية إطلاقاً ، بل أصبحوا جزءاً تاريخياً من النسيج الاجتماعي للأمة العربية ، ولهم حقوق الإقامة والمواطنة كاملة مثل ما للعرب تماماً ، شرط الولاء للأمة العربية ، وللوطن العربي أرضاً وشعباً .
648 5 دقائق