النزعة القومية في التاريخ العربي

بشير حنيدي

لا يمكن الحديث عن النزعة القومية، بذورها وجذورها ومعوقاتها في التاريخ العربي، بمعزل عن القومية العربية وجوداً موضوعياً  ووعياً اجتماعياً وشعوراً نفسياً، بالتالي تجسيداً حركياً للوعي والشعور  .فللقومية في أدبيات الفكر السياسي المعاصر ، مفهومان متكاملان يعبران عن ظاهرتين متلازمتين :
الأول :
هو  القومية تعبيراً عن الأمة ( كجماعة بشرية تكونت تاريخياً ، عندما تصل مرحلة وعي الذات القومية بدافع الشعور القومي ، وتتحفز للدفاع عن كيانها القومي  ) ، وبهذا المفهوم ، فهي ظاهرة اجتماعية موضوعية ، موجودة موضوعياً على أرض الواقع الاجتماعي ، لا يمكن إنكارها ، وإن أنكرها المعارضون فإنكار الموجود لا يلغي وجوده من الوجود  .
الثاني :
هو القومية ( النزعة والفكر والحركة ) ، وهي ( الانعكاس النفسي والثقافي والفكري لوعي الأمة لذاتها القومية ، والتجسيد الحركي لهذا الانعكاس دفاعاً عن الكيان القومي  ) ، جاءت انعكاساً واعياً للظاهرة الأولى ( الوجود الاجتماعي القومي ) إيماناً بالقومية كوجود اجتماعي ( أمة ) .. تأكيداً للشعور القومي بوحدة الوجود الاجتماعي.. وبهذا المفهوم فهي ظاهرة اجتماعية موضوعية، موجودة موضوعياً على أرض الواقع الاجتماعي، لا يمكن إنكارها، وإن أنكرها المعارضون فإنكار الموجود لا يلغي وجوده من الوجود .
وبكلتا الظاهرتين ، فإن الشعور القومي هو المرجع وهو الأساس .. هو المحرك والمحرض لوعي الأمة لذاتها القومية في الظاهرة الأولى ، وهو الذي رسخ وعي الأمة لذاتها ، فكان الأساس الذي انطلقت منه القومية لاحقاً نزعة وفكراً وحركة في الظاهرة الثانية .
والشعور القومي هنا ما هو إلا شعور فطري نابع من الطبيعة الاجتماعية للإنسان ، يتمثل بتعلق الفرد بقومه وحبّه وولائه لمجتمعه القومي  انعكاساً عن انتمائه الموضوعي لمجتمعه ، وبهذا المفهوم فالشعور القومي مرافق للوجود القومي ، سابق في الوجود على النزعة والفكرة والحركة  ، حيث الفطرة لدى الإنسان سابقة في الوجود على مرحلة الوعي والإدراك .
باحتكاك المجتمع مع المجتمعات المجاورة ، يتصاعد الشعور القومي لدى الفرد ومن ثم لدى المجتمع ، فيتنامى وعياً بالوجود القومي وهويته القومية الخاصة ، ليتحول التزاماً نفسياً لدى الفرد والمجتمع ، يتجسد بمرحلة ما بتيار اجتماعي يتنامى اتساعاً بانتشار الوعي القومي أفقياً في المجتمع ..
بالتفاعل الجدلي بين المجتمع القومي وجوداً والوعي القومي انعكاساً ،  يتصاعد الشعور القومي عمودياً لدى الفرد والمجتمع ، فيرتقي أعلى درجات الوعي والإدراك كدافع قومي  يشكل ناظماً لعلاقة الفرد بالمجتمع ، وموجهاً لعلاقة المجتمع بغيره من المجتمعات ..لينقل المجتمع إلى مرحلة وعي الذات القومية ، بالتالي  إلى طور متقدم  من أطوار التكوين الاجتماعي ( الطور القومي ) .. طور  يتصاعد خلاله الدافع القومي دفاعاً عن الذات القومية .. وهنا تنشأ الظاهرة القومية بالمفهوم الأول ، وهي ( الأمة عندما تعي ذاتها ، وتتحفز للدفاع عن كيانها القومي ) .. وهكذا نشأت كل الأمم وكل المجتمعات القومية .. ومنها مجتمعنا العربي.
وفي إطار العلاقة الجدلية بين ( الوجود والوعي والدافع ) ، يزداد الوجود القومي تماسكاً اجتماعياً ، ويتبلور الوعي القومي ثقافة قومية وفكراً قومياً .. فيتصاعد الدافع القومي نزعة قومية ، تشكل بدورها حافزاً لتصعيد الحركة القومية في المجتمع ، تأكيداً وإثباتاً للوجود القومي ودفاعاً عنه ، فتنشأ الظاهرة القومية بالمفهوم الثاني ( النزعة والفكر والحركة ) ، وهكذا نشأت في كل المجتمعات .. ومنها مجتمعنا العربي .
تلك هي القومية العربية بهذا المفهوم ( النزعة والفكر والحركة ) ، منذ نشأتها الأولى في الواقع العربي تميزت بما يميزها وما يكسبها شرعيتها ، وأهم ما يميزها .. أنها لم تكن حالة طارئة أو مرحلية مؤقتة ، قلم تنشأ كظاهرة جزئية ( حركة سياسية ، أو تنظيماً اجتماعياً ، أو توجهاً فكرياً نخبوياً ) ، إنما هي ثقافة مجتمعية عامة ، كامنة في أعماق الوعي المجتمعي ، سبقت في نشأتها كل هذه الظواهر الجزئية ، بل إن كل هذه الظواهر لم تأت إلا انبثاقاً عنها وتفاعلاً وانعكاساً وتجسيداً لها ، حيث اعتنقتها الغالبية الساحقة من أبناء الأمة العربية بدفع من الشعور القومي اجتماعياً ، قبل أن ينشأ – فكرياً وسياسياً – التوجه القومي الذي عمل على إخراجها من ساحة الكمون و تفعيلها حركة جماهيرية متصاعدة على أرض الواقع .
لم تكن إلا بنت الواقع الاجتماعي ، جاءت ارتقاءً طبيعياً ونمواً موضوعياً ( لبذور وجذور ) تعود نشأتها الأولى إلى عمق التاريخ العربي .. ولم تأت حالة مفتعلة ، أو ظاهرة مصطنعة كما يعتقد البعض .. أو كما يروّج البعض الآخر ادعاءً وافتراءً .
وما الافتراء على القومية العربية بهذا المفهوم بتهمة الافتعال والاصطناع ، إلا تشويهاً مقصوداً متعمداً .. أو قراءة خاطئة  لطبيعة الظاهرة ونشأتها .. قراءة سطحية تتنافى مع المنهج العلمي بتحليل الظواهر الاجتماعية وتفسيرها  ، إذ جهلت أو تجاهلت أي دور للماضي التاريخي بنشوئها وارتقائها ، حيث تناولت الظاهرة معزولة عن مسار التطور التاريخي للمجتمع العربي ، وكأنها جاءت طفرة استثنائية طارئة بمرحلة زمنية استثنائية خارج مسار التاريخ .. مثلما جهلت أو تجاهلت أي دور للتفاعلات الاجتماعية والتربوية والنفسية والثقافية والسياسية التي أسهمت بنشوئها وتفعيلها ، حيث تناولت الظاهرة وكأنها فكرة سطحية مجردة ، جاءت من وحي الخيال البشري بفضاء خياراته الفكرية المتعددة لمعالجة بعض مشكلات المجتمع ، كبقية الأفكار والنظريات التي ابتدعها المفكرون اجتهاداً كحلولٍ لمشكلاتٍ ما يعاني منها الواقع الاجتماعي ، ومن ثم تولى القادة والسياسيون تجسيدها عملياً على أرض الواقع ، ( كالاشتراكية مثلاً أو الديمقراطية أو العلمانية أو الليبرالية وغيرها ) ، لتجد من يقف ضدها داخل المجتمع ذاته ، أو من يعارضها باجتهادات أخرى مختلفة تبعاً لاعتبارات ومواقف مختلفة  .
أياً كانت الاعتبارات والمواقف .. لا يمكن وضع القومية على نسق واحد مع تلك الأفكار والنظريات، ذلك أن كل هذه الأفكار والنظريات لم تأت إلا (إبداعاً فكريا)، يستهدف هدم أسس وأركان الواقع كلياً أو جزئياً، وإعادة بناء واقع جديد على أسس وأركان جديدة.. فالاشتراكية مثلاً، جاءت رفضاً مشروعاً لواقع الاستغلال الاقتصادي والقهر الطبقي ، تستهدف بناء مجتمع جديد بعلاقات اجتماعية جديدة … لم يكن لها أي وجود على أرض الواقع قبل أن تصوغها النخبة الاشتراكية فكراً ونظرية ، ومن ثم تنقلها الطليعة الاشتراكية سياسةً على أرض الواقع بعد أن انتصرت في صراع طويل مع قوى الاستغلال والقهر الطبقي ( الإقطاعي أو الرأسمالي ) ، بالتالي حولت المجتمع بإرادتها من مجتمع إقطاعي أو رأسمالي إلى مجتمع اشتراكي ، مجتمع رسم المفكرون الاشتراكيون معالمه مسبقاً ، جاءت بعض معالمه لا تصلح للواقع ، فأعاد المفكرون صياغتها عسى أن يقبلها الواقع ..  وكذلك تماماً جاءت الديمقراطية أو العلمانية والليبرالية أو غيرها من الأفكار والنظريات.
أما القومية، فجاءت بصورة مختلفة كلياً.. بل معاكسة تماماً منطلقاً وغاية، فلم تأت إبداعاً فكرياً من وحي الخيال الفكري لدى القوميين عرباً كانوا أم عجماً ، إنما جاءت وعياً وانعكاساً موضوعياً عن واقع اجتماعي قائم ، هو القومية ( كطور من أطوار التكوين الاجتماعي ) ، طور موجود موضوعياً على أرض الواقع ، خارج إرادة الإنسان قبل أن يعيه أو يدركه .. وبتفاعل الإنسان جدلياً مع هذا الواقع وهو جزء منه ، انعكس الواقع كما هو بساحة وعيه وإدراكه ، ومن ثم سعى لاحقاً لبلورة ما وعاه وأدركه فكرياً ، لتكون حصيلة التفاعل والانعكاس والتبلور هي القومية ( الفكر والحركة ) .
تلك هي الظاهرة القومية / الفكر والحركة ، منذ نشأتها الأولى بأي مجتمع ، لم تأت لتغيير الواقع الاجتماعي كما جاء غيرها من الأفكار والنظريات ، إنما جاءت للدفاع عن الطبيعة القومية لهذا الواقع  ، والحفاظ على الواقع الاجتماعي القومي كما نشأ ونما تاريخياً ، والحفاظ على علاقاته الاجتماعية القومية كما نشأت ونمت تاريخياً .. وذلك بإزالة العوامل والظروف الطارئة أو المفتعلة التي شوّهت الطبيعة القومية للمجتمع وعرقلت مسار تطوره خلال حركة التاريخ .. وهكذا جاءت القومية العربية  ( نزعة وفكراً وحركة ) .
لم تأت ظاهرة غريبة مفتعلة  بمسار حركة  التاريخ العربي  كما يعتقد البعض ، أو كما يدعي الخصوم والمعارضون ، إنما جاءت تلبية لضغط الشعور القومي المتنامي عند العرب .. ذلك الشعور الذي لم يغب عن فضاء الأحاسيس والمشاعر ، وعن ساحة الوعي والتفكير عند الإنسان العربي بأي مرحلة من مراحل التاريخ العربي ، حتى في المرحلة القبلية في العصر الجاهلي ، ليستمر حاضراً بعد بزوغ فجر الإسلام .
وإن بقي شعوراً هادئاً كامناً بعد بزوغ فجر الإسلام وما تلاه من مراحل ، ولم يرقَ خلالها إلى مستوى نزعة قومية فاعلة في الواقع الاجتماعي ، مثلما ارتقى في مجتمعات قومية أخرى / الفرس مثلاً ،  فما ذلك إلا بسبب معوقات تاريخية اجتماعية سياسية فكرية ، عرقلت الحركة الطبيعية لارتقائه ونموه .. معوقات أضفت على بعضها نوعاً من الشرعية إشكالية فكرية تتعلق بفهم الموقف الحقيقي للإسلام من المسألة القومية .. عززتها سموم الحركات الشعوبية منذ انطلاقتها الأولى حقداً وعداءً للعرب .. تمكنت من زرع أوهام التناقض بين القومية والإسلام في الأوساط الفكرية المؤثرة بتشكيل الوعي العربي العام ، لينشأ في الواقع العربي  تيار شعبي متطرف ، معاد أو معارض للمشاعر القومية ولفكرة العروبة وللقومية العربية  ، تيار للأسف لا زال مستمراً ، ولا زال قادراً على تجديد نفسه باسم الإسلام ،  باستقطاب أجيال متعاقبة من أبناء الأمة ، ليعمل على نشر ما يريده أعداء الأمة من أفكار ومعتقدات تتعلق بالموقف من العروبة ومن المسألة القومية ..
وبهذا الاتجاه نقتفي آثار الشعور القومي عند العرب، بدءاَ من المرحلة الجاهلية قبل بزوغ فجر الإسلام بجزيرة العرب، وصولاً إلى النصف الثاني من القرن العشرين حيث ارتقى نزعة قومية جامعة، شكلت تياراً قومياً جماهيرياً على امتداد خارطة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى