يستعر حالياً صراع ريفي- حضري في الولايات المتحدة الأميركية، يذكيه فيروس كورونا، وقد تفوّق سلفاً على أحدث خمسة نزاعات مسلحة شهدتها البلاد من حيث عدد الضحايا.
تجاوز عدد ضحايا ما يمكن تسميته بالحرب الأهلية الثانية 62 ألفاً، حسبما ذكرت جامعة جونز هوبكنز. ويقول خبراء ذائعو الصّيت عالمياً إن هذا الصراع غير الحضاري بشكل متزايد لن يقترب من حيث عدد الضحايا من الحرب الأهلية الأولى التي لقي فيها نحو 600 ألف جندي أميركي حتفهم. أحد هؤلاء الخبراء المشهورين، أنتوني فوتشي، وهو الفتى المدلل لوسائل الإعلام الرئيسة واليسار السياسي الأميركي، الذي غالباً ما يتعامل معه دونالد ترمب ويقلل من شأنه في آن واحد، في إطار رئاسته التي تكاد تكون نموذجاً شنيعاً من عروض تلفزيون الواقع.
لكن جائحة (كوفيد-19) التي تؤجج الحرب الريفية-الحضرية في أميركا قد أوقعت بالفعل من القتلى الأميركيين أكثر من حرب فيتنام (58200)، والحرب العالمية الأولى (53402)، والحرب الكورية (36574) وحرب العراق عام 2003 (4431) والمغامرة السيئة في أفغانستان التي باتت أطول نزاع مسلح في التاريخ الأميركي (2445).
ويتزايد عدد الضحايا، وهو مقياس خطير ومضلل استخدمه الكثير من القادة الأميركيين لاتخاذ قرارات في زمن الحرب، في ساحة الحرب الريفية-الحضرية، حتى بات من الضروري على الأرجح تسميتها ولايات أميركية.
كان عدد القتلى في الحرب الأهلية الأميركية الأولى مذهلاً بالنظر إلى أن الجنود كانوا يملكون أسلحة بدائية مثل الحراب والبنادق، التي كان يجب إعادة شحنها باستمرار. وبالمقابل تُشن الحرب الأهلية الثانية بجميع الأسلحة ما عدا المادية منها، أي باللامبالاة والمرارة والضيم والكراهية القديمة.
لكن الريف الأميركي مستعد لتلقيم السلاح وإبقائه جاهزاً للإطلاق، في ما يرتعد الحضر في ظل الإغلاق التام.
ففي يوم الخميس الماضي، اقتحمت مجموعة من المواطنين الريفيين مبنى الكابيتول بولاية ميشيغان، مدججين ببنادق هجومية قوية وعلى أهبة الاستعداد للقتال. لكنّ هذه الحرب الأهلية الثانية لن تشهد تبادلاً لإطلاق النار. وبصراحة، هذا ما سيثير على الأرجح استياء البعض في أقصى اليمين، وفي اليمين غير المتطرف أيضاً.
وبدلاً عن ذلك، ستُدار هذه الحرب، لا بل هي تُدار سلفاً، بخلايا (كوفيد-19) المجهرية مع عودة الأنشطة التجارية وافتتاح المدارس والأماكن الرياضية في الريف الأميركي جمهوريّ الهوى، ما سيضمن استمرار انتقال الفيروس القاتل بين الناس، على حساب مزيد من المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية.
الأحمر مقابل الأزرق.
الريف مقابل المدينة.
نحن مقابل هم.
لقد أصبح دونالد ترمب، الذي يتحدّر من مانهاتن، وبشكلٍ ما زال من الصعب تصديقه حتى الآن، شخصاً أسطورياً في ثلاث مناطق من الولايات “المتحدة” هي حزام الشمس (الجنوب والجنوب الغربي)، وفي الوسط الغربي وفي الجبل الغربي، وكلها مناطق ريفية. وإذا قارن المرء خريطة النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية لعام 2016 بخريطة الولايات التي استعادت نشاطها في ظل استمرار انتشار فيروس كورونا، فسيلاحظ أنهما صورة طبق الأصل تقريباً.
ولا ننسى أن الرئيس، الذي اعتاد أن يقطن الشقة العلوية الفاخرة في برج ترمب، ويملك منتجعاً فخماً، يتمتع بسلطة قانونية لإدارة الحكومة الفيدرالية بأكملها وإدارة السياسة الخارجية الأميركية نيابة عن الولايات الخمسين كلها. ولكن لنكن واضحين، إنه في الحقيقة قائد لنحو نصف الشعب الأميركي فقط.
كتب صباح الجمعة الماضي في تغريدة له على “تويتر” أنه “يجب على حاكمة ميشيغان أن تتنازل قليلاً وتطفئ الحريق. هؤلاء (المتظاهرون) هم أناس طيبون للغاية، لكنهم غاضبون جداً. يريدون استعادة حياتهم مجدداً، بأمان! يجب أن تتحدثي إليهم وتتفقي معهم”.
يتصوّر الليبراليون منذ خمس سنوات أن ترمب يريد إثارة صراع مسلح ثانٍ، يطلق فيه الأميركيون النار على مواطنيهم. ورغم أنني لم أقتنع أبداً بمثل هذه المخاوف، من الواضح أن الرئيس مستعد، بل متحمس، عندما يبدو جاهزاً لفعل أي شيء للبقاء في السلطة، لإذكاء نار الانقسام بين المناطق الريفية والحضرية التي تزداد الفجوة بينها اتساعاً.
تُذكرنا عبارة “أناس طيبون جداً” على نحو مخيف بملاحظة أدلى بها في أغسطس (آب) 2017 عندما أشار إلى وجود “كراهية وتعصب وعنف لدى كثير من الأطراف” المشاركة في عنف مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا. وكان ذلك العنف نتيجة احتجاجات المؤمنين بتفوق العرق البيض التي أسفرت عن مقتل متظاهر مضاد لهم.
لكن، في ذهن الرئيس، للحفاظ على حماسة قاعدته الريفية في معظمها حتى الانتخابات المقرر إجراؤها في نوفمبر (تشرين الثاني)، أهمية بالغة، كما يكتب صاحب هذه السطور يومياً. ولعل إحدى الطرق التي تساعده على تحقيق ذلك، في ظل أوامر ملازمة المنازل والاقتصاد المتهالك، تتمثل في الوقوف إلى جانبهم وتأييد حجتهم الأساسية، كما يبدو. ويجادل أنصاره بأن الملل الذي تسبّبه أوامر الحكومة والانكماش الاقتصادي المؤقت يمثلان انتهاكاً للدستور الذي يخوّل للمواطنين حق اختيار مزاولة نشاطهم، بما في ذلك التجارة، وكذلك حق الإصابة بفيروس كورونا أو أي مرض معدٍ آخر.
ومن المؤكد أن بعض المحافظين في واشنطن قلقون حقاً من الضرر الاقتصادي الذي يلحق بالبلاد جرّاء هذا كله. ولكن غالباً ما تكون حجتهم لخوض حرب (كوفيد) الأهلية هذه هي أنه في الولايات المتحدة، لا تملك أي حكومة، محلية أو فيدرالية كانت أو حكومة ولاية، السلطة القانونية لخلق ضجر جماعي بأمر تنفيذي، ولا حتى أثناء حالة طوارئ صحية عامة.
ولا يتعيّن على ترمب، البطل الشعبوي لأميركا الريفية، تقديم هذه الحجة كل يوم. إن كل ما عليه فعله هو التلميح لها بأسلوبه الفريد في بضع أيام خلال الأسبوع، وسيُطبّل لها حلفاؤه، الذين يخشون قبضته الشديدة على الناخبين، وحتى على أنصار “المؤسسة ” المحافظين من الناخبين الجمهوريين، كما لو كان كل منهم قائد العزف على طبل الكونفدرالية.
فعلى سبيل المثال، قال عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا والحاكم السابق لولاية الشمس المشرقة، ريك سكوت، لشبكة فوكس نيوز”يا رجل، سأخبرك. إن الناس يريدون العودة ويريدون الخروج من منازلهم، ويريدون العودة إلى وظائفهم ويريدون فتح أعمالهم التجارية.” وما إن انتهى حتى ردّ عليه سريعاً وبانسجام مذيعان من برنامج “فوكس آند فراندز” بعبارة “نعم”، ما يعكس رغبة القناة في تأجيج الانقسام بين الريف والمدينة. (وفي بعض النواحي، تعدّ القناة مركزاً لهذا الانقسام).
وأضاف السيناتور “أعني أنه يمكنك أن ترى تلك الرغبة المكبوتة، أعني أن الناس قد سئموا المكوث في المنزل”.
وقد ذهب أحد شخصيات فوكس، وهو بريان كيلميد، إلى حدّ استخدام كلمة الحرب خلال المقابلة نفسها عندما خاطب سكوت، قائلاً “دعنا نتحدث عن الحرب التي تخوضها الآن مع نيويورك، والتي تمثل حقاً الولايات ذات الضرائب المرتفعة مقابل الولايات ذات الحدّ الأدنى من الضرائب، ربما الحمراء والزرقاء”.
ويشعر الناس في الولايات (الريفية) الحمراء، مثل ترمب، أنهم ضحية الولايات (الحضرية) الأكبر حجماً. فقد كان الأمر هكذا منذ أن أصبحت الولايات الأميركية “متحدة”. ولكن الآن، ها هي هذه الحرب الأهلية الثانية تخلق تحالفات إقليمية بين الولايات، كما أشار مراسل مجلة “بلاي بوي” في البيت الأبيض براين كارم، عندما سلّط الضوء على أحلاف إقليمية عقدتها الولايات مع بعضها بعضاً لشراء المعدات الطبية، التي رفض ترمب في البداية مساعدتهم للحصول عليها، وعلى تنسيق الخطط الاقتصادية معاً، التي تجاهلها الرئيس بشكل أساسي عندما سئل ما إذا كان سيعمل على صياغتها.
وكتب كارم الشهر الماضي أنه “بعد سنوات من الآن، إذا تفككت الجمهورية إلى عدد من البلدان، بعد أن كانت بلداً واحداً، سيلقي المؤرخون نظرة فاحصة على التحالفات الإقليمية بين الولايات التي عُقدت للتعامل مع فيروس كورونا كبذور لتلك النتيجة”.
كما تُسلط حرب (كورونا) الأهلية الضوء من جديد على التوترات الأميركية التي لم تُحَلّ حتى الآن بين البيض من جهة، والأشخاص الملونين من جهة ثانية. هكذا طرحت السيناتورة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا، كامالا هاريس، وهي من أصول أفريقية، وديمقراطيون آخرون، مشروع قانون يهدف إلى معالجة سبب ارتفاع عدد الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا بين الأقليات في الولايات المتحدة.
وقالت هاريس، التي كانت تتحدث في مؤتمر صحافي عبر الهاتف هذا الأسبوع، إن مشروع القانون يهدف، من بين أمور أخرى، إلى “إجبار الوكالات الفيدرالية، مرة أخرى، على تنفيذ استثمارات محددة ومبنية على بيانات في هذه المجتمعات، لضمان تخصيص الموارد مثل الأقنعة وملابس الوقاية ومعدات الفحص، بحيث تكون متناسبة مع حاجة تلك المجتمعات المختلفة. كما أنه استناداً إلى البيانات، ستقدّم فرقة العمل (التي سينشئها القانون) توصيات حول كيفية توزيع الأموال الممنوحة”.
لكن لا يبدو أن كبار ضباط ترمب في هذه الحرب الأهلية الثانية مستعدون لمساعدة المجتمعات الأميركية من أصول أفريقية، وكثير منها تقطن في الولايات الحضرية (أي الزرقاء).
عندما سُئل القيادي الجمهوري في مجلس النواب، ستيف سكاليز، من لويزيانا المتضررة بشدة، في مقابلة أجرتها معه قناة “فوكس” عن طلب رئيسة مجلس النواب الديمقراطية، نانسي بيلوسي، مساعدات فيدرالية إضافية بقيمة تريليون دولار لصالح الولايات التي تعاني من ضائقة مالية، أوضح أن حرب كورونا الأهلية ستشمل معارك كثيرة على أموال دافعي الضرائب.
وأضاف سكاليز غاضباً “حسناً، هل نسيت أن الكونغرس أرسل حرفياً 150 مليار دولار إلى الولايات الأسبوع الماضي فقط؟ لقد حصل معظم هذه الولايات على المال للتو، ولم تبدأ في إنفاقه حتى الآن، وبيلوسي تتحدث عن منحها المزيد من المال؟ بحق السماء، لقد جرى منح تريليونات من الدولارات… إننا نحاول مساعدة العائلات والشركات الصغيرة على الصمود في الوقت الحالي. ويبدو أن الولايات الوحيدة التي ترغب تلك السيدة في مساعدتها هي تلك التي كانت تعاني من عجز بمليارات الدولارات قبل كوفيد-19”.
ومرة أخرى، كانت تلك إشارة إلى الولايات الحضرية، مثل كاليفورنيا وإلينوي وغيرها، التي لديها برامج معاشات تقاعدية مكلفة.
إذاً، لقد ارتسمت خطوط المعركة، وباتت أميركا الريفية، المظلومة دائماً، مسلحة وجاهزة لوضع حد لضجرها الذي لا ينتهي. إنهم يحملون بنادق آلية من نوع AR-15 على أكتافهم ويرتدون قمصاناً كُتب عليها “اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”. أمّا أميركا الحضرية، المتعجرفة دائماً، فلديها أقنعة من صنع مصممين ماهرين لالتقاط صور شخصية ونشرها على “إنستغرام”، ولديها دراسات علمية هامة لإبقائها مشغولة.
فهل يمكن لقماش غير منسوج أن يهزم النواة الفولاذية لرصاصة بندقية من نوع ريمنغتون عيار 223؟ الأكيد أنه لا يمكن لأي منهما قتل فيروس كورونا. ولكن مع إصرار أميركا الريفية البالغ على وضع حدّ لمللها، فإن الإصابات بفيروس كورونا التي لم تعد تشهد تقلبات حادة، قد تستقر عند مستوى مرتفع لبعض الوقت، كما لاحظ جيريمي كونيانديك، وهو المدير السابق لـ”مكتب المساعدات الخارجية في حالات الكوارث التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية”.
وهذا يعني أن الجانب الحضري من الحرب سيواصل تسجيل المزيد من الخسائر في الأرواح. وقد أخبرنا ترمب في وقت مبكر أنه يعتبر ما يجري “حرباً” وأن اهتمامه منصبٌ حول عدد الوفيات. فهذه الحرب الأهلية الثانية ما زالت في معاركها الأولى، التي يتقدّم فيها الريف الأميركي.
المصدر: اندبندنت عربية