حزم الدَّولة أو التشظّي الوطنيّ!

زياد الصائغ

لُبنان عاجق الكون. العالم العربي والمجتمع الدَّولي يُريدان لَهُ العَودَةِ إلى هويّتِه الحضاريَّة. عاجق الكَون واقِعٌ موثِّر لكن مؤلم. مؤثِّر لأنَّه يؤشِّرُ إلى عُمق المحبَّة التي يَكُنُّها العالم لوطن الأرز. مؤلِم لأنَّ من يتولَّى أمورَهُ، وعلى الرَّغم من الخطوات الإيجابيَّة السِّياديَّة الإصلاحيَّة التي يتَّخِذونها، ما زالوا في مسارٍ إنقاذي بطيء. الثَّبات أساسيّ لكن لا تَرَف وقتٍ للتريُّث. الزَّخمُ العربيُّ والدَّوليّ الذي ما زال يواكِبُ هذه الحِقبَةِ التأسيسيَّة يستدعي استِنفارًا أكثر جدّيَّة، ورؤيَة أكثر شموليَّة. الشُّموليَّةُ هُنا تتبدَّى فِعلاً تقاطعيًّا بين استِعادَة الدَّولة من ناحِيَة، وبدءِ وَضعِ مداميكِ بنائِها الجديد من ناحِيَةٍ أُخرى.

استِعادةُ الدَّولة وبناؤها لا يستقيمان سوى بالحَزم. الحَزم اللَّفظي وذاك العملانيّ. كِلاهُما يقتضيان الابتِعاد عن تجارب سابِقَة. التحوُّلات الجيو-سياسيَّة في الإقليم، مع الزَّخمِ الذي أسلفنا ذِكرَهُ، كلّ ذلك يَسمَح بإطلاقِ تجرِبَةٍ متجدِّدةٍ تُحاكي خُطاب القَسَم والبيان الوزاريّ. لم يأتِ الخُطاب والبيان سِوى من قَنَاعَةٍ راسِخَة بأنَّ لبنان أمام فرصةٍ استثنائيَّة وأخيرة، وإلَّا يقبَعُ في حيِّز الهُدوء بدل الاستِقرار. المراوحة بدل التقدُّم. التَّرقيع بَدَل التَّغيير الرَّاديكالي. الحَزمُ اللَّفظيّ والعملانيّ يؤمِّنان هيبَة دولة الدُّستور والقانون. دولة الأمن القومي-الوطني. دَولة الحَوكمة السِّياديَّة.

مفادُ التَّشديد على موجِب الحَزم، التحرُّر من مفاهيم تبسيطيَّة أُدخِلَت عُنوَةً وبخُبثٍ إلى الفضاءِ العامّ اللُّبنانيّ. أوَّلُها أنَّ الحَزم لا بُدَّ من أن يأخُذ بالاعتِبار هشاشة التعدُّديَّة المكوِّنة للمجتمع اللُّبناني. ثانيها أنَّ الحزم لا بُدَّ من أن يُبنى على توافُقَاتٍ بأعرافَ تستحيلُ دائمة. ثالِثَها التَّحذير من إمكانيَّة اصطداماتٍ تنقَضُّ على ما اصطُلِحَ تسميتُه بالسِّلم الأهليّ. التحرُّر من هذه المفاهيم التَّبسيطيَّة بنيويّ.

لا يأخُذُ هذا التحرُّر مَعنَاهُ سِوى بمُحاججةٍ علميَّة. المُحاجَجَة العلميَّة ترتكِزُ على اختِباراتٍ واقعيَّة. بادِئ ذي بدء لا تتقوَّى هشاشَة التعدُّديَّة المكوِّنة للمجتمع اللُّبناني سِوى بمُسَاواةٍ دستوريَّة، وقانونيَّة، وحقوقيَّة، واقتِصاديَّة، واجتِماعيَّة تفرِضُها الدَّولة. ثُمَّ إنَّ التوافُقات تقوم بشروط الدَّولة، لا بالاستِجابَة لتنازُلات تتحكَّمُ بها موازين قِوى، أيًّا تكُن هذه الموازين. أمَّا التَّهويل بصِراعاتٍ عائِدَة، فيبقى من قبيل الابتزاز يُمارِسُهُ من يهوِّلُ بها، إذ هي تبقى الشرعيَّةُ وَحدَها معنيَّة من خلالِ مؤسَّساتها الدُّستوريَّة بالتصدّي لِأيّ إخلالٍ بالسِّلم الأهليّ.

أن تحزِمَ الدَّولة اللُّبنانيَّة أمرَها بفاعليَّة الخطوات السِّياديَّة والإصلاحيَّة، يعني حمايَة الأَمن المجتمعيّ من جِهَة، والإفادّة من المعطياتِ الجيو-سياسيَّة المستجدَّة من جِهَة أُخرى. عدا ذلك سيَخسَرُ لبنان الفُرصة الأخيرة، ويُفسِحُ في المجال لتشظٍّ وطنيّ كارثيّ.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى