يقدِّر أغلبُ الناس أنَّ صحةَ العقل لا تثمر إلَّا نتائجَ جيدة، وأنَّ الجنونَ هو المشكلة، في حين يرى كتابٌ” جنون من الطراز الرفيع-للكاتب الأمريكي ناصر قائمي” أنَّه على الأقل وفي ظرف معينٍ بالغِ الأهمية والحساسية يمكن أن يؤديَ الجنونُ إلى نتائجَ جيدةٍ، وعندها تكون الصحةُ العقلية هي المشكلةَ. ففي فترة الأزمات نكون أفضلَ حالًا لو يقودنا زعماءُ مختلُّون عقليًّا، بدلًا من أن يقودَنا زعماءُ أسوياء.
تختلف أنواعُ القيادة باختلاف السياقات، فالزعيمُ غيرُ المحنك قد ينجح في الأوقات العادية، لكنَّه حتمًا سيفشل في فترة الأزمات، ولأجل ذلك ينبغي له أن يبقى بعيدًا عن سدة الحكم أثناء الأزمات.
أفضلُ الزعماء للأزمات هم إمَّا مرضى عقليون أو غيرُ عاديين، والزعماء الأسوأ للأزمات هم الأصحاء عقليًّا.
في زمن السلم، تكون الصحة العقلية مفيدة، إذ يسعى القائدُ إلى تلبية توقعاتِ مجتمعه، وتتمُّ مكافأتُه على ذلك، أمَّا في زمن الحرب أو الأزمة، فلا حاجة إلى مثل هذا القائد، وقد اهتمَّ الطبيبُ النفساني الألماني أرنست كريتشمر بهذا الموضوع، وكان أولَ باحثٍ حديثٍ في الشخصية غير العادية، فقد تنبَّه إلى حقيقة الترابط بين الجنون والعبقرية، وقد أدرك فائدةَ الخللِ العقلي البسيط، سواء أكان ذلك في المراحل الأولية للمرض العقلي الحاد، أم في الحالات المعتدلة والمحدودة من المرض العقلي بمعنى الشخصيات أو الأمزجة غير العادية. ويرى كريتشمر في هذا الصدد أنَّ هؤلاء إذا شفوا من جنونهم فسنحول عبقريتَهم إلى مجرد موهبة عادية، فالجنون هنا ليس حادثًا مؤسفًا، لكنَّه حافزٌ لا غنى عنه للعبقرية. ولكريتشمر عبارة شهيرة إذ يقول: إنَّ هؤلاء في زمن السلم، هم مرضانا، ونحن من يحكم عليهم، أمَّا في فترات الأزمة، فهم من يحكمنا.
سوف نرى أنَّ الزعماءَ العظامَ الذين ذكرهم التاريخ من أمثال تشرشل، لينكولن، جون كندي، مارتن لوثر كينغ والجنرال وليام شيرمان، يكابدون الأحزان من أجل أن يكون المجتمع سعيدًا، حتى إنَّهم كثيرًا ما يطلبون المساعدة من الأقارب والأصدقاء والأطباء؛ تارةً يكونون في أعلى عليين، وطورًا في أسفل السافلين، ولكن من المؤكد أنَّهم لم يكونوا يومًا في أحسن حالاتهم تمامًا، وإذا ما حلت أزمةٌ وكانوا ممن فوّض لهم إدارة شؤون البلاد، تجدُهم يبادرون بالاتصال والتواصل مع الشعب من أجل منحِ هؤلاء الناس الشجاعة التي يفتقدونها، فلا يقدر على تثبيت البشر إلَّا من كان أكثرهم ثباتًا. يمكن باختصار القول: إنَّ في ضعفهم يكمن سرُّ قوتهم.
ربما كان الرابطُ الأقدمُ بين المرضِ العقلي وسمةِ الشخصية المرغوب فيها هو ما أماط عنه أرسطو اللثام بين الإبداع والاكتئاب، حيث لاحظ أنَّ الشعراءَ يميلون إلى الاكتئاب، وقد ظل هذا الأمرُ لفترة طويلة معبرًا عن الشكل التقليدي للحكمة، فالشاعرُ المكتئب يعكس النموذجَ النمطيَ للمبدع من أمثال المتنبي وابن الرومي وأبو العلاء المعري. في ذروة عهد الرومانسية في القرن التاسعَ عشرَ دافع الطبيب النفسي الإيطالي تشيرازي لومبروزو عن وجهة نظر أرسطو بقوة، حتى إنَّه انتهى إلى صياغتها في شكل معادلة بسيطة: العبقرية =الجنون، وأعرب عن اعتقاده َّ لا يمكن لأحدهما أن يكونَ من دون الاخر، أمَّا مؤسسُ علمِ الوراثة السلوكي، فرانسيس جالتون، فعارض هذه الفكرةَ، وقلبَ المعادلةَ تمامًا لتكون العقل= العبقرية، ويشير هذا إلى أنَّ الذكاءَ وحدَه الذي ينتج العبقرية، أغلبُ المتجذرين بالثقافة الغربية يميلون إلى معادلة جالتون على حساب معادلة لومبروزو، لكن يبدو أنَّ القانونَ الأساسيَّ الذي يفسر العلاقة بين المرض العقلي والزعامة، يمكن أن نُطلقَ عليه القانونَ العكسيَّ لسلامة العقل: بمعنى عندما تكون الظروفُ مواتيةً ويعمُّ السلام، وتبحر سفينة الدولة في أمان، يعمل الأشخاصُ الأسوياءُ بشكل جيد كزعماء، وعندما تسودُ العالمَ الفتنُ والقلاقلُ تجد أكثرَهم حرصًا على المبادرة الزعماء المختلين عقليًّا.
يقول المؤرخُ ديفيد إدجيرتون: إنَّ الأمةَ البريطانية لم تكن موجودة إلَّا لبضعة عقودٍ بعد الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين، كانتِ الهويةُ البريطانية عالمية، مرتبطةً بإمبراطوريتها، وقد أصبحت أمةً فقط في سنوات ما بعد الحرب، عندما جرى تنظيمُ الرأسمالية من قبل الدولة، وحظي المواطنون بالرفاهية «من المهد إلى اللحد»، منذ ذلك الحين، ومع مبيعات الصناعات الوطنية تبوَّأت لندنُ مركزَ الصدارة، وأصبحت بريطانيا مجردَ مركزِ الشركات متعددة الجنسيات، ومجردةً من أي صدى اجتماعي أو مدني واسع. كانت الأمة البريطانية النائمة في حقبة ما بعد الحرب هي التي كان من المفترض أن تُعيدَ إحياء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن لم يوجدِ القائدُ العبقري من أمثال تشرشل ليقود هذا التحول.
أما في عالمنا العربي فقد كان زعماءُ من أمثال القذافي وصدام يوصفون بالجنون، لكن من ناحية أخرى، استطاعوا ضمن الهوامش الضيقة المسموحة لهم، بالتحرك الفعال والتميز عن غيرهم أحيانًا بالإيجاب وتارةً بالسلب، بينما بقي قرناؤهم أدواتٍ طيعةً في أيدي من أتى بهم. في ثورات الربيع العربي لم يحظَ الثوارُ بقادة من أمثال غيفارا أو كاسترو، والذين يمكنُ ضمُّهم إلى فئة الاستثنائيين، سواء اتفقنا أم اختلفنا مع آرائهم وتصرفاتهم، لكن بالتأكيد كان جنونُهم سرَّ عبقريتهم، لكنَّ الأمرَ الجوهري الذي نحتاج إلى التفكُّر به: أن معظمَ هؤلاء -ممن ذكرنا من قبل- كانوا يحبون وطنهم وشعوبهم، ولم نُوفَّقْ بعدُ بإيجاد ذلك العبقريِّ المجنونِ الذي يحبُّ وطنَه ليخرجنا من قاع الوادي! فأغلبُ المجانين العباقرةِ الذين ربما صادفْنا بعضَهم في ثوراتنا، يحبون أنفسَهم أكثرَ من شعوبهم؛ فيوجهون عبقريتهم لخدمة مصالحِهم الضيقة على حساب شعوبهم المكلومة، أمرٌ آخرُ أنَّ الميزانَ في الوعي الجمعي الذي يُميزُ بين من ينفعُ الناسَ ومن يضرُّهم مازال مختلاً بشدة؛ لذلك المجنونُ العبقريُّ الصادقُ، يُدَكُّ في السجن أو مشفى المجانين، أمَّا العبقريُّ المجنونُ المنافقُ، فإنَّهم يجلسونه في مقعد القيادة، أو على الأقل يصفقون له ولمن أجلسه على ذلك المقعد، ولو كانوا أعداءَ الناسِ والإنسانية! ربما هذا سؤالٌ نحتاج جميعًا للإجابة عنه: متى وكيف نقفز من قاع الوادي؟