في حياة الشعوب لحظات مفصلية ومهمة من الانبثاق والتغيير والفعل، وفي حيواتها أيضًا بعض النهوض الذي يعيد إنتاج بناءاتها على أسس جديدة، وأبعاد ليست آنية فحسب، بل يشوبها العديد من بواعث الأمل في إحداث تحريك جدي في المياه الراكدة، وفي إعادة صقل أدوات صنع المستقبل وفق معطيات جديدة متجددة. ولعل ماحصل صبيحة يوم 23 تموز/ يوليو 1952 كان ومايزال مندرجًا في مثل هذه السياقات الثورية التي تعيد إنتاج الواقع على مداميك بنيانية تغييرية ترسم ملامح المستقبل بأسره، ليس للشعب المصري فحسب، بل للأمة كل الأمة، من منطلق الاندراج في البعد التغييري المختلف، وقدرته على الدخول في مسارات تاريخانية تصنع انبلاجات صبح جديد، تحرك الفكر السياسي برمته، وتضعه في مصاف الثورة القومية الديمقراطية وفق فعل تجاوزي يستوعب كل متغيرات الواقع العربي، وينتج حالات من تطلعات الشعوب تُفضي إلى التغيير المنشود.
لقد أحدثت ثورة يوليو قبل نحو سبعين عامًا ونيف الكثير من التغيرات الجذرية، وهو ما أعطاها سمة الثورة، بعيدًا عن ماشابهها في تلك المرحلة، في غير مكان من الواقع والجغرافيا العربية، التي اتسمت بالانقلابات، والتي لم تتجاوز تلك، كونها انقلابات عسكرية ليس إلا، بل راوحت بالمكان، ثم انطفأت لتعاد الكرة مرة أخرى. لكن ما أحدثته ثورة يوليو كان مختلفًا كليًا، وجديدًا ومتجددًا بشكل يلفت الأنظار ويعيد الأمل لدى الكثير من الشعوب العربية في إمكانية إعادة الحياة إلى كنهها، بعد هزيمة العرب ونكبتهم الكبرى المشهودة في حرب فلسطين عام 1948.
اليوم وبعد مضي كل تلك السنين، ومرور الكثير من المياه تحت الجسر، هل مازالت محددات ومتغيرات الثورة القومية هي نفسها؟ وهل يمكن البناء الآن والتطلع نحو المستقبل على نفس الأسس ونفس المحددات، أم أنه لم يعد مقبولًا ولا معقولًا أن نستمر في السكون والاستراحات، وعدم تحريك الفكر، والقبول بأن المسألة مضت وانقضت، أو أن المحددات القومية صالحة لكل زمان ومكان، كمايريد البعض من أهل الفكر القومي أن يقولوا.
نعتقد جازمين اليوم أن هناك الكثير من المتغيرات البنيوية، والعديد من المسارات العربية قد فات أوانها، وأن المطلوب في هذه اللحظة الزمنية وبكل جرأة وشفافية أن تتحمل النخب القومية وقفة موضوعية مع الذات، وقدرة على التفكير العصري الجديد، في ماهية تجديد الفكر القومي المنبعث من ملامح ثورة يوليو، فالمسافة طويلة وكبيرة بعد سبعين عامًا مضت لكنها لم تنقض، بل تدفعنا دفعًا إلى اجتراح الحلول واستيعاب المتغيرات، وقبول النقد المزدوج كطريق للاستيعاب، وهو ما نادى به الراحل الدكتور جمال الأتاسي منذ أكثر من ثلاثين عامًا أو يزيد.
الواقع العربي الذي عاشه الراحل جمال عبد الناصر في زمانه لم يعد موجودًا وكل انبثاقات الأمة التي كانت يوم 23 تموز/يوليو قد أصبحت في خبر كان، وكل يوم لدى العرب تحدث فيه تغيرات جديدة، ومن يبقى في (الستاتيك) فكأنما يريد (شاء أم أبى وعى ذلك أم لم يعيه)البقاء في المكان دون مغادرة، بينما قوانين السياسة والطبيعة وعلم الاجتماع والفلسفة تقول غير ذلك، والقاعدة الفلسفية اليونانية تقول ( كل واقف فإلى نقصان أقرب) وهي حقيقة علمية تمنع الدخول في أتون بوابات المستقبل، وتحيل الواقع العربي إلى مزيد من الفشل، وتراكم هذا الفشل والانتكاس، والكثير من المراوحة بالمكان، في واقع معولم لايقبل الوقوف، وإلا كان الخراب والدمار والعجز وعدم الولوج في أبواب المستقبل المنشود.
ولعل الكثير من الموضوعات التي بات طرحها ملحًا وأهمية التعاطي معها ضرورية، قد أضحت اكثر حضورًا في البحث عن حلول لها، والتعامل معها بشجاعة وانفتاح فكري لا يُقدس الفرد، ولا يُطَمٍّر على الأخطاء، كما لايقدس الأفكار، بل يجترح الحلول والأفكار وفق حاجات المجتمعات وضروراتها، وعلى هدي الحركة والفعل والقدرة على التجاوز، دون المساس بأساسات الفكرة وماهيتها. وقد تكون المسألة الديمقراطية في ذلك اليوم، غاية في الأهمية من حيث أنه لم يعد واقعيًا أن لاننقد الممارسات اللاديمقراطية في مسارات العمل القومي، لأن الواقع العربي بات همه الأساس أن يخرج من عنق الزجاجة، والمضي قدمًا نحو ثوراته القومية الديمقراطية بكل أطرها ومحدداتها.
كما لابد من التعاطي مع المسائل الوطنية والإقليمية وفق منظور واقعي ومنطقي، يستوعب أن لكل بلد عربي سياقاته الوطنية الصرفة، التي تتلاقى في مآلاتها مع الحالات القومية الوحدوية، دون القبول بقضايا لاتعي ماهية الساحات الوطنية، ولا تستوعب أسس بناء الأوطان الصغرى ضمن خصوصيات ومعطيات الوطنية أولًا.
كذلك فإن التداخل تارة، وعدم الوضوح تارات أخرى بين العروبة والإسلام، هو ماحال ويحول دون استيعاب المسألة في سياقاتها الفكرية والسياسية على أسس ومتغيرات غاية في الحداثة والفكر المستقبلي، وهذه مسألة طالما عجز فيها القوميون والإسلاميون عن الولوج فيها وعبرها ومواجهة الدكتاتوريات في العالم العربي، نحو انجدال فكري واقعي في التعاطي الواعي بين العروبة والإسلام على أسس ومعطيات عصرية ضرورية، لبناء مجتمعاتنا العربية دون تشنجات أو إقصاءات لم يعد مقبولاً أبدًا الركون إليها.
والأهم من كل ذلك فعلى أهل الفكر القومي العربي اليوم استيعاب كل المتغيرات التي أحدثتها موجات الربيع العربي المتلاحقة، والتي مازالت تعطي كل جديد يومًا إثر يوم، وتنبيء بانبلاجات صبح جديدة، وإحداث ثورة حقيقية في الفكر قبل الواقع العملي الميداني، ليعاد إنتاج الواقع الوطني والقومي، وفق متغيرات عصرية قادرة على إحداث مجتمعات الحرية والكرامة المفقودتين منذ زمن طويل، في ساحات الوطن العربي. فهل نحن قادرون على ذلك؟ ومن ثم المضي بخطىً ثابتة، وبوعي علمي منفتح، نحو واقع عربي جديد، تبقى فيه راية العروبة الديمقراطية عالية خفاقة؟