لعل السؤال الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة العربية، ما إذا كان العرب جادّين في الانخراط بمشروع “ناتو” شرق أوسطي، وهو، من دون الحاجة الى الخوض في شرح المصطلح وتفكيكه، هيكل أمني، له قيادة وأدوات وخطط إستراتيجية، يهدف إلى بلورة القدرات في مواجهة خصم محدّد، هو في الغالب إيران.
ليس سرّاً أن مكونات هذا التحالف هي إسرائيل، ودول الخليج، ومصر والأردن، والعراق المدعو لحضور اجتماع 9 +1 ، مع الرئيس الأميركي جو بايدن في جدّة، إلا أنه من المستبعد أن ينخرط بمثل هذا التحالف في مواجهة إيران، كما أن مصر التي سبق وانسحبت من مشروع “الناتو” العربي، من المستبعد أن تكون لديها نيات جدّية للمشاركة في هذا المشروع.
يستدعي تركيب هذا التحالف إجراء عملية جراحية، حيث سيتطلب إدخال إسرائيل، التي، وإن تقع في قلب الجغرافيا العربية، إلا أنها خارج الوجدان العربي والمصالح السياسية العربية، طمس القضية الفلسطينية واعتبارها شأناً إسرائيلياً داخلياً مع تفويض الحكومات الإسرائيلية التعامل مع الشأن الفلسطيني، وإحالته إلى قضية حقوق قومية تنحصر في اللغة والدين. كما سيستدعي تشكيل الناتو الشرق أوسطي إخراج دول المغرب العربي والسودان واليمن، التي وإنْ كانت ضمن إطار الشرق الأوسط جغرافياً، إلا أن إيران التي تشكّل المحرّك الأساسي لهذا التحالف، لا تشكل لتلك الدول أي مصدر للخطر، وهي منشغلةٌ بهموم وهواجس أمنية وسياسية مختلفة.
أبعد من ذلك، ما هي مصلحة عرب المشرق للانخراط في هذا المشروع؟ والأهم، هل تسمح أوزانهم الحالية بلعب أدوار مهمة في تقرير توجهات التحالف وسياساته؟ ليس سرّاً أن إسرائيل وأميركا تتعاملان مع الموقف في المنطقة بطريقةٍ يبدو فيها تشكيل التحالف الشرق أوسطي كأنه استجابة إسعافية منهما للعواصم العربية الواقعة تحت ضغط التهديد الإيراني، وبالتالي، العرب فاقدون الخيارات الأخرى، حالة أشبه بحالة أوروبا الواقعة تحت ضغط التهديد الروسي، وبالتالي، هي مضطرّة لاستدعاء مظلة الحماية الأميركية والقبول بالعمل تحت قيادتها وبإشرافها، رغم اختلاف الرؤى الأوروبية والأميركية لإدارة النزاع الروسي الأوكراني.
يدفعنا ذلك إلى السؤال عمّا إذا كان العرب قد استنفدوا تجريب أدواتهم في التعامل مع إيران، وما إذا كانت هذه الأدوات لم تجد نفعاً، وبالتالي، التجأوا إلى الخيار الأخير، والذي ستترتب عليه تنازلات أمنية وسياسية لإسرائيل وأميركا مقابل الحصول على مظلة حمايتهما، فإسرائيل وأميركا ليستا جمعيتين خيريتين، ستقدمان خدمات مجانية للأطراف العربية من دون الحصول على مقابل ذي قيمة مرتفعة. وبالمناسبة؛ تحاكي إسرائيل في مشروعها التحالفي تجربة إيران في جعل سورية ولبنان والعراق خطوطا أمامية لحماية عمقها، حيث يوفر التحالف الشرق أوسطي لإسرائيل هذه الخطوط الدفاعية المتقدمة وإشغال إيران، واستنزافها بعيداً عن مجالها الجغرافي.
المفارقة أن إيران خصم متخلّف تكنولوجيا وعسكرياً، وثبت ذلك جليا في حربها السورية، إذ رغم ضعف فصائل المعارضة السورية وفوضويتها، واستخدام إيران كامل طاقتها العسكرية، عبر إشراكها نخب قواتها في الحرب وصفوة أذرعها (حزب الله، والفاطميون)، إلا أن تدخّل روسيا، بأسلحتها الغبية الغزيرة، هي ما أنقذ إيران من هزيمة مذلّة في سورية، فهل خصمٌ على هذه الشاكلة يستحق التورّط بمشاريع قد يكون لها أثمان مرتفعة، وخصوصا على صعيد القضية الفلسطينية، وعلى صعيد الأمن القومي العربي الذي سيصبح مخترقاً بدرجة كبيرة، في حال انخراط بعض الدول العربية في هذا المشروع التحالفي؟
إيران جار لئيم وغير عقلاني، وأكثر ما تتضح سياساته في سورية والعراق، حيث يعمل على تغيير هوية البلدين، ويحاول استتباعهما بشتى الطرق، وتكريس نفوذه فيهما قرونا مقبلة، بل وربما تغيير هويتهما إلى الأبد، لكن إسرائيل أيضاً تعمل في فلسطين سعيها على إلغاء الهوية الفلسطينية، ولا تختلف أوجاع السوريين والعراقيين عن أوجاع الفلسطينيين؛ فالجميع يتعرّضون لحرب إبادة بيولوجية وثقافية، ولافت اتباع إيران وإسرائيل الإستراتيجيات والتكتيكات نفسها في سحقهما هذه الشعوب.
هل الهدف من الناتو الشرق أوسطي تحقيق التوازن مع إيران، وبالتالي، ردعها عن القيام بعدوان يستهدف الدول العربية؟ لا يستقيم مفهوم توازنات القوى في تحليل الصراعات العربية الإيرانية، فمعطيات القوّة الإيرانية ليست واضحة، ولا تشكّل فيها نوعيات الأسلحة وحجم الجيوش عناصر مهمة، فليست لإيران قوات جوية مهمة ولا قوات برّية ذات قيمة، كما أن لا هياكل عسكرية ثابتة لجيوشها، بالأصل. منذ أكثر من ثلاثة عقود لم تخض إيران حروباً بجيوش وأسلحة تقليدية، وهي ليست في وارد إعادة تحديث وهيكلة مجالها العسكري، هي تحارب بخليطٍ من مليشيات وأسلحة عتيقة وأنماط قتالية وخطط عسكرية تجاوزها الفكر العسكري الحديث وأنماطه.
مؤكّد أنه لا مصلحة للعرب في هذا الناتو الشرق أوسطي، الذي لن يكون له سوى مردود واحد، شرعنة وجود إسرائيل والتنازل نهائياً ورسميا عن فلسطين، فماذا لو تحسّنت العلاقات بين واشنطن وطهران بعد أشهر، ولو انطوى هذا التحسّن في العلاقة على شرط مراعاة أمن إسرائيل، حينها، لا يكون العرب قد ضمنوا سلامتهم من إيران، ولكنهم خسروا، في الوقت نفسه، فلسطين وشعبها!.
المصدر: العربي الجديد