في البدء أرغب في وضع السؤال : ماهي المعايير القيمية التي تستند اليها الانتقادات الموجهة للفتوحات العربية الاسلامية , فاذا كانت هي ذاتها معايير قيم القرن الحادي والعشرين بعد انتهاء مرحلة استقلال الدول التي كانت خاضعة بصورة تامة للجيوش الاستعمارية , ونشوء القوانين الدولية بعد الحرب العالمية الثانية , فمعنى ذلك أن تقييمنا يجري خارج التاريخ , وبهذا المنطق يمكن ادانة فتوحات الاسكندر المقدوني , والامبراطورية الرومانية , والامبراطورية الفارسية , وصولا الى ادانة الفتوحات الاسبانية لأمريكا والفتوحات الانكلوسكسونية لأمريكا الشمالية , وفتوحات نابليون بونابرت في أوربة والمنطقة العربية ..الخ .
والا لماذا تفتح النار فقط على الفتوحات العربية؟
إن لكل عصر قيمه ومعاييره الأخلاقية , فالعبودية كانت أمرا مشروعا في التاريخ القديم , واقتناء الرقيق , ووجود سوق له لم يكن أمرا مرفوضا من البشرية كلها , فالحضارة اليونانية العظيمة والتي قدمت للإنسانية مفهوم الديمقراطية بالفكر والممارسة , كانت تستبعد العبيد من أي مشاركة سياسية وكان الرق يمارس على نطاق واسع لدرجة أن معظم سكان أثينا كانوا من العبيد حسب ما جاء في الالياذة والاوديسة , واليهودية لم تقف ضد نظام العبودية , وكل ما حاولته بهذا الصدد هو تقنين مرحلة استعباد اليهودي لليهودي وجعلها لفترة زمنية محدودة يطلق بعدها , أما استعباد اليهودي لغير اليهودي فلم تتعرض له بالنقد بصورة تامة , والمسيحية بكل زخمها الانساني لم تمنع وجود الرقيق , واستمرت المجتمعات المسيحية متقبلة لنظام الرق حتى القرن التاسع عشر , وفي عام 1865 نص الدستور الأمريكي أول مرة على تحريم العبودية , وفي عام 1906 صدر عن عصبة الامم قرار بمنع تجارة العبيد وتحريم العبودية بشتى أشكالها .
فما رأيكم بمن يريد تقييم دولة عاشت في القرن التاسع الميلادي من زاوية أنها مدانة لسماحها بوجود نظام الرق؟
الفتوحات أيضا كانت قانون العلاقة بين الدول والامبراطوريات في التاريخ القديم، ولا أعرف أحدا يدين فتوحات الاسكندر المقدوني من منظور تعديه على الأراضي التي كانت تحت حكم الامبراطورية الفارسية وبسط سيطرته على بلاد الشام ومصر والعراق حتى فارس. وفيها شعوب لا علاقة لها باليونانيين والثقافة اليونانية من قريب او بعيد.
فهل كانت بلاد الشام ومصر مثلا محكومة بحكومات تمثل شعوبها عند الفتح الاسلامي ثم جاء الحكم العربي ليلغي (استقلال) تلك الدول ويضعها تحت الاحتلال؟
أما بلاد الشام فسكانها كانوا من عنصرين رئيسيين، الآراميين السريان، والعرب الذين سكنوا مدنها وقراها وبواديها منذ مئات السنين قبل الفتح العربي، ففي جنوب بلاد الشام كانت مملكة الغساسنة العربية، وفي قلب بادية الشام قامت مملكة تدمر التي كانت القبائل العربية سندها ومادتها وكانت الآرامية لغتها الرسمية وقد توسعت حتى ضمت بلاد الشام ومصر وأجزاء من الأناضول حوالي 260 للميلاد.
أما الامبراطورية الرومانية فقد سيطرت على بلاد الشام لكن الحكم الروماني كان منفصلا من الناحية الاجتماعية والثقافية انفصالا تاما عن السكان الأصليين.
ويشرح السير أرنولد توماس الأسباب الكامنة وراء ترحيب أهل البلاد الأصليين في بلاد الشام ومصر بالفاتحين العرب فيقول ان المسيحيين في كلتا البلدين كانوا بمعظمهم يدينون بمذهب اليعاقبة الذي يقول بالطبيعة الواحدة للمسيح , في حين أن الامبراطورية الرومانية كانت تدين بالأرثوذكسية التي تقول بوجود طبيعتين للمسيح في اقنوم واحد , وحينما حاول هرقل ايجاد حل توافقي يوحد الكنيستين لكسب ولاء أطراف الامبراطورية الرومانية في مصر والشام ازدادت كراهية الارثوذكس لهرقل يقول سير أرنولد توماس ” والواقع أن الشعور الذي أثاره هذا الامبراطور بلغ من المرارة مبلغا يبرر الاعتقاد بأنه حتى السواد الأعظم من الارثوذكس من رعايا الدولة البيزنطية الذين يقيمون في البلاد المفتوحة في عهد هذا الامبراطور ( مصر والشام ) هم الذين رحبوا بالعرب وقد نظروا للإمبراطور نظرة الكراهية باعتباره خارجا عن الدين وكانوا يخافون أن يأخذ في اضطهادهم لحملهم على قبول مذهبه الذي يقول بوحدة مشيئة المسيح ومن أجل هذا استقبلوا بالرضى – بل بالحماسة – هؤلاء السادة الجدد الذين وعدوهم بالتسامح الديني ” ويبدو أن المسيحيين كانوا على حق في حماسهم للفتوحات العربية , وقد نوه بذلك ميخائيل بطريرك انطاكية اليعقوبي فيما كتبه في النصف الثاني من القرن الثاني عشر بعد خمسة قرون من الحكم الاسلامي حين رأى ” اصبع الله في الفتوحات العربية ” وكتب يقول بعد أن سرد اضطهادات هرقل : ” وهذا هو السبب في أن اله الانتقام الذي تفرد بالقوة والجبروت ….لما رأى شرور الروم الذين لجأوا الى القوة فنهبوا كنائسنا وسلبوا أديارنا في كافة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة , أرسل أبناء اسماعيل من بلاد الجنوب ليخلصنا على أيديهم من قبضة الروم ” (كتاب سير أرنولد توماس – تاريخ نشر الاسلام – ص 73 ) .
وحين قدمت جيوش الفتح الاسلامي فان المقاومة التي واجهتها كانت من الجيش البيزنطي، وحين هزم ذلك الجيش في معركة اليرموك انسحب مرة واحدة الى أقصى شمال بلاد الشام (انطاكية) ولم يعد اليها سوى بغزوات متفرقة محدودة محصورة بالتخوم الشمالية لبلاد الشام.
دخل العرب المسلمون دمشق فما عرف عنهم أنهم استباحوها بل كتب خالد بن الوليد لأهلها ما يلي: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانا على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله، والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم الا بخير إذا أعطوا الجزية ” (انظر فتوح البلدان – الجزء الأول – ص 166)
أما الجزية فهي خمسة دنانير من الأغنياء وأربعة دنانير من الطبقة الوسطى وثلاثة من الفقراء وقد قلت عن ذلك في العصور اللاحقة وتؤخذ من كل رجل بالغ ولا تجبى عن الصغار او النساء , ولا من الفقير المحتاج أو الشيخ أو الأعمى والأعرج والمريض الذي لا يرجى شفاؤه , ولا من الرهبان في الأديرة , وقيمة الدينار وقتها كانت تعادل ثمن شاة تقريبا ,أما المسلم فيدفع الزكاة وقيمتها 2.5% من ماله المدخر وأملاكه , فالجزية هي مقابل تأمين أهل الذمة في ذلك الوقت على أنفسهم وأموالهم والدفاع عنهم وتأمين حقوقهم وعدم اشتراكهم في الدفاع عن البلاد . وحين تشارك الجماعة المسيحية في القتال الى جانب المسلمين تسقط عنها الجزية وحدث ذلك مع قبيلة الجراجمة وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم قرب انطاكية، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونا لهم في قتالهم مع الروم.
وقد أعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدا مماثلا لما سبق لأهل بيت المقدس، وتنص العهدة العمرية على الآتي ” بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل ايلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم “وجاء بنفسه ليستلم مفاتيح المدينة.
أما منطقة الجزيرة وهي الأراضي الواقعة بين الفرات ودجلة حتى جبال طوروس فيقول عنها المؤرخ الألماني كارل بروكلمان: ” كان الآراميون سكان البلاد الأصليون خاضعين دائما لاضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية السائدة آنذاك، بسبب من قولهم بمبدأ الطبيعة الواحدة للمسيح، فلم تكن بهم رغبة في الاحتفاظ بالوضع الراهن، ليس هذا فحسب بل لقد وفقت قبائل العرب البدوية قبل الاسلام بقرون الى أن تجتاح البلاد، والى أن تبسط سلطانها من حين الى حين على الرها والحضر، وهكذا كانت بلاد الجزيرة على أتم الاستعداد للفتح العربي “
ولما بلغ الجيش الاسلامي بقيادة أبو عبيدة بن الجراح وادي الأردن بعث اليه الأهالي المسيحيون برسالة يقولون فيها: ” يا معشر المسلمين، أنتم أحب الينا من الروم، وان كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا،وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا”
ونأتي الى فتح مصر:
كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم المقوقس وهو الاسقف الذي عينته الامبراطورية الرومانية حاكما لمصر ومقره الاسكندرية التي كانت بمثابة عاصمة لمصر، وقد جمع المقوقس بين منصبه الديني كبطريرك للإسكندرية وحاكم للإدارة المدنية، يقول كارل بروكلمان: ” ولكن سياسة المقوقس الكنسية والحاحه في جباية الضرائب الكثيرة ثقلا على القبط، الى درجة كان من الطبيعي معها أن يرحبوا بالعرب كمنقذين فعل السوريين وهم اخوانهم في الدين (يقصد على مذهب اليعاقبة ) “
ولم يواجه عمرو بن العاص ومعه حوالي 10000 مقاتل مقاومة ذات أهمية في مصر سوى عند اقترابه من معسكر بابليون ( مكان القاهرة ) وهو معسكر للجيش الروماني وحين خرج الجيش الروماني من المعسكر والتقى مع جيش عمرو في عين شمس لحقت بالجيش الروماني الهزيمة وانسحب الى حصن بابليون ,ثم دخل المقوقس في مفاوضات مع عمرو بن العاص للاتفاق على تسوية يعطي المقوقس بموجبها جزية للمسلمين , وذهب الى بيزنطة لأخذ موافقة الامبراطور هرقل .لكن هرقل لم يوافق أبدا على تسوية كتلك واعتبر ما فعله المقوقس تخاذلا غير مبرر , ثم ان الامبراطورية الرومانية عادت فوافقت على ارسال المقوقس ثانية للمفاوضات بعد موت هرقل , وعاد المقوقس فاتفق مع الجيش الاسلامي بقيادة عمرو على تسوية يتم بموجبها الاعتراف بالسيادة العربية على مصر ممثلة بدفعهم جزية سنوية وتسليم مدينة الاسكندرية وكان حصن بابليون قد سقط قبل ذلك , على أن يترك المسلمون للمسيحيين معابدهم ولا يتدخلون في ادارة شؤونهم الاجتماعية، وبالفعل تم تسليم الاسكندرية للجيش المسلم وبذلك تمت السيادة العربية على مصر.
ومما سبق لا نجد أي أثر لمقاومة المصريين للجيش العربي، فالمقاومة حصلت فقط من قبل الجيش الروماني الذي كان يفرض السيادة البيزنطية التي كرهها المصريون لاضطهادها المذهبي لهم وللضرائب الباهظة التي كانت تفرضها مما أثقل كاهلهم. وعلى النقيض من ذلك فان مؤرخا المانيا محترما مثل كارل بروكلمان يرصد ترحيب المصريين بانتهاء السيادة الرومانية على يد العرب.
ولست أدري بعد ذلك كيف يتم لوي رقبة التاريخ، واستغباء الناس، واستغلال جهل الكثيرين بتاريخ الفتوحات العربية، للظهور بمظهر النقد العصري الذي يكتشف ما تم الصمت عنه طويلا من وحشية البرابرة العرب الذين اجتاحوا دولا ذات حضارة عريقة كمصر والشام اجتياح المستعمر الظالم لتلك الشعوب التي وقفت في وجههم وقاومتهم دون أن تتمكن من وقف اجتياحهم البربري؟!
وبالطبع فان كذبا كهذا يحتاج الى الاستناد الى معايير القيم التي أصبحت سائدة اليوم بعد الحرب العالمية الثانية من احترام سيادة واستقلال الدول، وعدم الاعتداء عليها، واللجوء للقوانين الدولية فيما يتعلق بأي خلاف على الحدود. وهكذا تشوه الفتوحات العربية ليس فقط باعتبارها اجتياحا بربريا، ولكن أيضا باعتبارها عملا توسعيا مدانا حسب معايير العصر.
مقال في صميم الحقيقة يكشف زيف الإدعاءات الشعوبية والمغرضة عن الفتوحات العربية والإسلامية التي وُصفت بالعبارة الخالدة ( ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب ).