رغم انقضاء أكثر من عشر سنوات على بداية الصراع السوري، ما زالت مؤشرات الوصول إلى حل للقضية السورية ضعيفة، ومصدر ضعفها سكون الأوضاع السياسية والميدانية المحيطة بها، وهو مؤشر واضح إلى انتظار الأطراف ذات الصلة حصول تطورات سياسية وميدانية، يمكن أن تعدل الوضع الحالي، وتدفع أطرافاً وبخاصة الأساسيون للتحرك باتجاه حل القضية السورية.
حالة الانتظار في الأهم من جوانبها محصّلة لما آل إليه الصراع في سوريا وعليها، وما أصابهما من تعقيدات وتداعيات، أدت في الواقع الميداني والسياسي إلى انسدادات وإحباط لمختلف الأطراف. ففي الواقع الميداني ثمة إحباط ويأس عند كل الأطراف من أنه لا يمكن إحداث تغييرات ميدانية عميقة من دون فواتير باهظة، لا يرغب أي من الأطراف في دفعها، مما يجعلها، كأنها متفقة. بل هي متفقة ضمناً على استمرار ما يشبه حالة الهدوء النسبي على جبهات الصراع، لا تغيِّره اشتباكات أو قصف هنا أو هناك، ولا تقلبه حتى خطة حرب تركية بعملية واسعة ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في الشمال الشرقي، خصوصاً بعد أن شرح الأتراك بعض محتوياتها، فقالوا إنها حرب من مراحل، ويبدو أن قسماً منها سيكون موارباً، فيأخذ شكل عمليات استخبارية في بعض المناطق ذات الأهمية البالغة للأتراك.
مؤشرات إحباط الأطراف المختلفة في الشق السياسي، لا تقل وضوحاً عنها في الواقع الميداني، حيث يغلب الصمت، وتجاهل ما يحصل من أغلب الأطراف الإقليمية والدولية، بل حتى الأطراف المحلية، وحين يضطر البعض للكلام، فإنه يذهب إلى كلام عام، ولا معنى له في بعض الأحيان، وعندما يضطر بعضهم لقول يتصل بالحل السوري، فإنه يذهب في غير الاتجاه المطلوب، مثل الحديث عن مسار آستانة بدل مسار جنيف، وقد يتجاهل الأمرين، ليقف عند تفصيل، ثبت أنه لا معنى له، ولا نتائج تمخضت عنه على مدار سنوات، وهو خط اجتماعات اللجنة الدستورية، التي تجمع النظام والمعارضة والأمم المتحدة، ويتابعها عن قرب كل المشاركين والمهتمين بالصراع في سوريا.
الخاسر الأكبر في الواقع الحالي، هم السوريون. شعب يرزح تحت أوضاع أمنية شديدة التردي، ويعيش في ظل فقر متزايد، ويفتقر إلى أساسيات العيش، يسير من سيئ إلى أسوأ في كل شيء، مدفوعاً نحو اليأس والإحباط وفقدان الأمل، والنظام الذي ثبت فشل كل رهاناته على الحل الأمني – العسكري، والاستعانة بأدوات قتل وسيطرة خارجية متعددة التوجهات من أجل إعادة إحكام قبضته على البلاد، ودفع السوريين إلى حظيرته، لم يعد يملك أي قدرة على فعل شيء له أهمية حتى من أجل حاضنته وأدواته، وقد ارتكبوا أفظع الجرائم من أجل بقائه، بل إنه بدأ فتح معارك، ليس في مستوى الحاضنة فقط، بل في مستوى هياكل وأشخاص من الدائرة الأقرب إليه، والأمثلة أكثر من أن تُعدّ وتُحصى في مستويات ومجالات مختلفة.
ولا شك أن أوضاع المعارضة ومن هم في حكمها هي الأسوأ من حالة الشعب والنظام معاً بحكم طبيعة التردي الذي أصابها، وهو أمر في شقين؛ الأول هو فشلها عن القيام بما كلَّفت به نفسها من مهام، ووعدت السوريين القيام به، وتضييعها فرص السوريين سواء لجهة تحقيق أهدافه في التغيير، وإقامة نظام جديد يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، وأقلها لجهة الوصول إلى حل يضع سوريا والسوريين على سكة تحول إلى نظام ومستقبل جديدين. والأمر الآخر أنها ذهبت إلى ارتهان، منه ثلاث حالات: حالته الأولى يكرّسها مسار المعارضة الداخلية وأساسها هيئة التنسيق الوطني، التي تعمل تحت سيطرة نظام الأسد ومحكومة بما يرضى به ممتعضاً. وقوات سوريا الديمقراطية وحزبها القائد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المنسوخ والمرتبط بحزب العمال التركي (PKK)، وقد تجاوزت ارتباطها العقائدي والتنظيمي مع (PKK) إلى ارتباط سياسي وعسكري أهم وأعمق مع الولايات المتحدة، فصار واحدة من أدواتها في الملف السوري. ويمثل الائتلاف الوطني الحالة الثالثة مضافة إليه حكومته وبقايا جماعات المعارضة المسلحة، ويتمركزون جميعاً في حيز السيطرة التركية، ويتابعون ضبط حركاتهم وفق توجهاتها، وهو حال يقارب وضعية هيئة تحرير الشام، التي لا تبتعد عن منطقة السيطرة التركية، وإن كانت الأخيرة ليست الوحيدة في هذه العلاقة مع هيئة تحرير الشام.
إن ارتهان جماعات المعارضة ومن في حكمها أو خارجها مثل هيئة تحرير الشام، لا يؤكد خروج الجماعات من مسار المعارضة فقط، بل جعلها تجهد في العمل للحفاظ على وجودها بوصفها كيانات سياسية أو عسكرية أفرزها الصراع ليس إلا، وفي الأعلى من ذلك تكريس وجودها بوصفها قوى سيطرة الأمر الواقع في بعض المناطق، مما يجعلها قادرة على التحكم في مصادر مالية مثل معابر مرور البضائع والأشخاص، والتحكم في ثروات مثل النفط ومواسم مثل القمح والقطن، والاستمرار في كشف وتجارة الآثار وغيرها من أنشطة، باتت تمثل الشغل الشاغل للجماعات المسلحة وواجهاتها السياسية وللحكومتين القائمتين في شمال غربي سوريا: المؤقتة التابعة للائتلاف، والإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، وللإدارة الذاتية التابعة لـ«قسد» في شرق الفرات.
وسط الوضع السيئ المعقّد والمركّب في المستويات والمجالات كافة، يطرح السؤال الأساسي نفسه عمّا يمكن القيام به من جانب السوريين سواء في المستوى الشعبي أو في مستوى النخبة النافذة والقادرة؟ بل ربما كان السؤال الأهم هو: هل بإمكان السوريين أن يفعلوا شيئاً في مواجهة ما هو قائم؟ وهم الذين باتوا يواجهون ترديات هي الأسوأ في تاريخهم الحديث، ترديات تشمل وجود احتلالات أجنبية، لها وكلاء محليون أبرزهم نظام الأسد و«قسد» و«تحرير الشام» في مكانة سلطات حاكمة باطشة وفاسدة وأقلوية، تركت مستقبل سوريا والسوريين، وانشغلت بترتيب شؤونها، وجني ثروات لكبار المسؤولين فيها بشتى الطرق، وترك السوريين في ظل انهيار أمني، يواجهون الفقر والجوع وتدهور مستويات الحياة بفعل أزمة اقتصادية طاحنة.
المصدر: الشرق الأوسط