
ينوس المخيّم الفلسطيني في الشتات بين المؤقت والدائم، يُريح هذا الوضع المتناقض سكّان المخيّمات، ويساعدهم في تفسير معنى العيش والولادة في مكان، والانتماء إلى مكان آخر. هذه حالة استثنائية تعصى على التفسير، كيف يعيش المرء كلّ حياته في مكان، وينتمي إلى مكان آخر لم يره في حياته كلّها؟ هل يُفسِّر ذلك أن البلدان التي استقبلت اللاجئين لم تمنحهم جنسيتها، فاستمرّوا غرباء في البلد؟ وإذا كان هذا صحيحاً في تفسير حالات مثل المخيّمات في سورية ولبنان، فكيف نفسّر هذا الانفصام في التعاطي مع المخيّم في بلد مثل الأردن منح الفلسطينيين الجنسية؟
في مقال سابق في “العربي الجديد”، عرّف كاتبُ هذه السطور المخيّمَ بأنه “مكان بناه الغرباء في هامش المدينة، بنوه بإحساس المؤقّت، بإحساس الضحية التي تتعامل بشكل خاصّ مع الأماكن التي تمرّ بها وتسكنها”، ويضيف هنا أنهم بنوه في الهامش، لأنهم مطرودون من المركز، فلا يمكن للاجئين أن يحتلّوا المركز، وهم الذين جاءوا في حالةٍ بائسةٍ من خارج البلاد، وغير مرغوبٍ فيهم في المركز أصلاً، وليس بوسعهم احتلاله، لأن الفقراء بطبيعة الحال مكانهم الهامش، حتى المواطنون الفقراء مكانهم الهامش أيضاً، فكيف الحال إذا كان هؤلاء الفقراء من خارج البلاد ويحتاجون مساعدات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)؟ ولأنهم كذلك، من الممكن حشرهم في المخيّمات/ الأماكن التي تختارها لهم السلطة حيث لجأوا.
يمثّل لبنان المفارقة الرهيبة والحارقة للمصائر المتباينة للاجئين، الذين أتوا من المكان نفسه، وشهدوا مصيرَين متفاوتَين
ما انطبق على فقراء اللاجئين لم ينطبق على الأغنياء منهم، فمصير هؤلاء كان مختلفاً عن سكّان المخيمات، ولبنان يمثّل المفارقة الرهيبة والحارقة للمصائر المتباينة للاجئين، الذين أتوا من المكان نفسه، وشهدوا مصيرَين متفاوتَين. الأول مصير اللاجئين الأغنياء، الذين لم يعودوا غرباء في لبنان منذ الفترة الأولى من اللجوء، فقد مُنح هؤلاء الجنسية اللبنانية، وأخذوا يعاملون (ويتعاملون) على أساس أنهم لبنانيون أباً عن جدّ، أو على أساس أن لبنان وفلسطين لطالما كانا بلداً واحداً. لعب الفلسطينيون دوراً مهمّاً في لبنان على أكثر من مستوى. كتب عنهم رئيس تحرير وصاحب صحيفة السفير في حينه، الراحل طلال سلمان، مقالاً تحت عنوان: “الفلسطينيون جوهرة الشرق الأوسط”، عدّ فيه فلسطينيين كثيرين ساهموا في بناء لبنان، وكثير من هؤلاء “الجوهرة في الشرق الأوسط” أنكر فلسطينيته، ولم يفعل شيئاً لإخوته فقراء اللاجئين الذين جاءوا معهم إلى لبنان، وللسبب نفسه. الثاني، مصير اللاجئين الفقراء، الذين حُشِروا وما زالوا في المخيّمات، وكانت الانتهاكات لحياتهم وبيوتهم من الأمن اللبناني فوق التصوّر. وهذا غيضٌ من فيض، لقد شُنّت حرب تجويع على المخيّمات الفلسطينية في لبنان، ليس من إسرائيل (خلال حروبها)، ولا بمذابح أصدقائها (صبرا وشاتيلا) بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بل ممّن كان يُحسب على الحركة الوطنية، ويعتبر نفسه صديقاً للفلسطينيين، كما عاقبت السلطة اللبنانية (وما زالت) اللاجئين في قوتهم اليومي، فمنعتهم من ممارسة أكثر من 70 مهنة، وفي مقدمها المهن التي تتطلب شهادات علمية أعلى. لماذا يدرس اللاجئ الفلسطيني في لبنان الهندسة أو القانون، وهو لا يستطيع العمل في البلد المضيف؟ وأيّ بلد مضيف هذا الذي يحارب اللاجئين في لقمة عيشهم؟!… نعم يستطيع اللاجئ الفلسطيني، الذي يعيش في مخيّمات لبنان المكتظّة، المحامي أو المهندس، العمل في قطف الحمضيات في الأراضي اللبنانية. وقد نجحت سياسة التجويع في تهجير الفلسطينيين من لبنان، الذين كانوا يُعدّون قبل 30 عاماً حوالي 600 ألف نسمة، واليوم لا يزيد عددهم على 200 ألف.
كان اللاجئون في سورية يعيشون أوضاعاً أفضل من أشقّائهم في لبنان. لم يعد الحال كذلك مع اندلاع الاحتجاجات في سورية في العام 2011، ولم يوفّر النظام اتهامه الفلسطينيين بأنهم من بدأ تخريب البلد، ولم ينجُ الفلسطينيون من اتهام المعارضة لهم بأنهم مع النظام. كما لم يوفّر النظام المخيّمات من حربه التدميرية التي شنّها على البلد، فقد هجّر سكّانها كما هجّر سكّان البلدات السورية، وهدم المخيّمات على رؤوس أهلها، كما حدث في مخيّمَي درعا واليرموك، وجعل هذه الأماكن غير صالحة للعيش البشري، مثل أماكن سورية كثيرة هدمها بصفتها مناطق مُعادية، وهو ما تسبّب بموجة من اللجوءين، الداخلي والخارجي، للفلسطينيين، الذين أُفقروا، كما أُفقرت البلد كلّها، ولأن اللاجئين هم دائماً من الفئات الأضعف في المجتمعات التي تشهد صراعات، فهم أكثر من يدفعون ثمن هذه الصراعات.
رغم بؤس المخيّمات الفلسطينية في خارج فلسطين، حاول سكّانها رعاية الحلم بالعودة إلى وطنهم الذي هُجّروا منه، لكنّ فشل تحقيق هذه العودة، رغم التضحيات كلّها التي قدّموها في صراعهم مع إسرائيل، وفي صراعات الآخرين مع بعضهم، جعل الهدف أبعد، بل أكثر من ذلك، لم يعد حقّهم في العودة إلى ديارهم مهدّداً، كما نصّ عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 فحسب، بل باتت المخيّمات المؤقتة التي يبنون فيها أحلامهم في العودة في مهبّ الريح أيضاً، وهي الأماكن التي لطالما نظروا إليها بوصفها أماكن الانتظار الدائم، فقد أصبحت هذه الأماكن مهدّدة بالإزالة الكاملة، لإزالة حقّ ساكنيها في العودة إلى ديارهم، التي يُصرّون على العودة إليها رغم كلّ شيء.
المطلوب اليوم إبادة الفلسطينيين وتفكيك قضيتهم، وهذا ما تقوم به إسرائيل، ويقف معها الراعي الأميركي
لا خلاف في أن المخيّمات كانت من مصانع الوطنية الفلسطينية الحديثة، مصنعاً مضادّاً لتجربة الاقتلاع من الوطن بفعل الاحتلال، فقد أصبح الفلسطينيون في المنافي بديلاً حيّاً من أوطانهم، فالهُويَّة في المنفى تأتي من الوطن المسلوب، ولا هُويَّة من دونها، وشكّل المخيّم عنواناً رئيساً لهذه الهُويَّة الوطنية. اليوم، هناك محاولة جديدة لمحو القضية الفلسطينية بمستوياتها كلّها، ليس قضيةً لاجئين فحسب، وهو ما عبّرت عنه الحرب على “أونروا”، ومنع عملها من إسرائيل، واعتبارها منظّمة إرهابية فحسب، بل تخوض إسرائيل حرب إبادة على الفلسطينيين لمحو قضيتهم بكلّ أبعادها الوطنية، من حقّهم في استقلالهم في وطنهم إلى حقّ اللاجئين في العودة أيضاً.
المطلوب اليوم إبادة الفلسطينيين وتفكيك قضيتهم، وهذا ما تقوم به إسرائيل، ويقف معها الراعي الأميركي، بأسوأ جريمة إبادة علنية ووقحة ترتكبها إسرائيل.
المصدر: العربي الجديد