“حماس” بين ضغطَي الداخل والخارج

حيّان جابر

بدأت الانتقادات والضغوط على حركة حماس تتصاعد حتى باتت اليوم قريبةً من حدّ الخطر الذي قد يؤدّي إلى كسر الحركة، أو التأثير الكبير في مواقفها، إذ لم تعد الضغوط محصورةً في معسكر الاستسلام فقط، أو حتّى في المعسكر الانتهازي المحسوب على هذا الطرف أو ذاك، داخلياً أو خارجياً، بل باتت تتغلغل في أوساطٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ، منها حاضنة المقاومة نفسها، خصوصاً داخل قطاع غزّة، وبدرجةٍ أقلّ خارجه. كذلك، تتصاعد الضغوط الخارجية الناتجة من تزايد الضغط الأميركي، خصوصاً من الأطراف التي تحاول تجنّب الصدام مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أو على الأقلّ، تحاول تأجيل المواجهة (السياسية غالباً)، وهو ما يشمل معظم دول الإقليم، بل قد يشمل إيران أيضاً، رغم استبعاد كاتب هذه السطور ذلك، في الوقت الراهن على الأقلّ.
بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى بعض المسائل المرتبطة بهذه الانتقادات، أولها أن لحركة حماس مكوّنَين (إن جاز التعبير)، أحدهما تحرّري والآخر حكومي، الأول تجسّده كتائب عزّ الدين القسّام، وسائر مكوّنات الحركة المعنية بتنظيم سائر الأشكال النضالية، إعلامياً وإغاثياً وسياسياً واقتصادياً، أمّا المكون الحكومي فهو المسؤول والمعني بتنظيم حياة الناس داخل قطاع غزّة، بما يتضمّن من مسؤوليات جسام، وميّزات مالية وقيادية وسواهما.

تنتج معظم الضغوط الخارجية على المقاومة من قصور دور دول الإقليم، تجاه فلسطين، وتجاه مصالحها وأمنها القومي

هنا نلحظ أن حجم الرضا، بل الفخر، الشعبي وغير الشعبي، بأداء المقاومة عموماً، والمقاومة المحسوبة على حركة حماس خصوصاً، كبيرٌ جدّاً، ليس على مستوى فلسطين فقط، بل أيضاً داخل قطاع غزّة، وهو ما عكسته الهدنة أخيراً، ومشاهد تسليم أسرى الاحتلال الصهيوني. في مقابل ذلك؛ نعلم جميعاً أن أداء “حماس” الحكومي (السلطوي)، أقلّ من المطلوب فلسطينياً، ليس اليوم فقط، بل منذ بدايات سيطرتها على قطاع غزّة، نتيجة عوامل عديدة، منها عوامل خارجة عن إرادة الحركة مثل الحصارين اللاإنساني واللاقانوني، وتواطئ سلطة حماية الاحتلال في رام الله معه، فضلاً عن تواطئ إقليمي أيضاً، لكنّ العوامل الأخرى تتحمّل الحركة مسؤوليتها الكاملة (أو شبه الكاملة)، سواء في ما يتعلّق بالفساد وسوء توزيع الثروة (أو الأصحّ الفرص والموارد) والاستفراد والتشبّث السلطوي والقمع والاستبداد… إلخ، وعليه، فإن نقد سلطة “حماس” سابق لـ”طوفان الأقصى” بسنواتٍ عديدةٍ، ومن الطبيعي أن يعود ليبرز في السطح الآن. وهناك (ثانياً) طول العدوان وامتداده، ما راكم فوق أخطاء “حماس” السابقة أخطاءً جديدةً، منها ما تتحمّل مسؤوليته كلّها، ومنها ما نتج من عدوان الاحتلال وإجرامه، ونجح بعض معارضي نهج المقاومة في تحميل المقاومة وفصائلها مسؤوليته، خصوصاً جناح “حماس” السياسي، ولا سيما في غياب مظاهر قيادة الفلسطينيين ميدانيين في مواجهة عدوان الإبادة المستمرّ، أو على الأقلّ، غياب مخاطبة هذا الشعب العظيم ذي الصمود الأسطوري.
ثالثًا؛ التوقيت الحرج، إذ تزامنت الضغوط الداخلية مع الخارجية في موازاة الضربات المؤثّرة التي تلقاها حزب الله، وتراجع فعّالية الحوثيين في اليمن، وضعف أثر حركات التضامن العالمية… كلّها عوامل قد تؤدّي إلى التأثير في فعالية المقاومة المسلّحة وكفاءتها، بل قد تؤثّر في استمراريتها. وهناك رابعاً، التعويل على مقاومة غزّة فقط، إذ لم تشهد سائر المناطق الفلسطينية (باستثناء قطاع غزّة) مظاهر مقاومة فاعلة ودورية منذ “طوفان الأقصى”، من أسباب ذلك تعرّض المقاومة المسلّحة (العنيفة) في الضفّة الغربية لاستهدافٍ صهيوني مباشر وضخم، ومنها أيضاً انكشاف المقاومة المسلّحة للاحتلال من خلال إمكاناته التقنية المتطوّرة، وبفعل التنسيق الأمني، أو دور سلطة حماية الاحتلال في رام الله، إلى جانب ذلك تراجع العمل السرّي، الذي سهّل على الاحتلال تحديد الأهداف وتحقيقها، فضلاً عن سهولة الاختراق الأمني وصعوبة التخطيط المنظّم. لكن إلى جانب ذلك، غابت المقاومة السلمية داخل فلسطين غياباً مؤلماً.
أما الضغوط الخارجية فمعظمها ناتج من قصور دور دول الإقليم، ليس تجاه فلسطين فقط، بل تجاه مصالحها القومية، وأمنها القومي، بعيداً من مصالح حكومتها المسيطرة المتشابكة مع المصالح الأميركية، بل الصهيونية (للأسف!). من هنا، وفي ظلّ انتهازية الانتقادات الخارجية وشرعية الانتقادات الداخلية، وخطرهما على تقويض المقاومة أو إضعافها، رغم أدائها الأسطوري منذ “طوفان الأقصى”، يجد الكاتب أن أداء حركة حماس السياسي لم يرقَ إلى المستوى المطلوب حتّى اللحظة، على الرغم من الفترة الزمنية الطويلة نسبياً، وعلى الرغم من وضوح مكاسب “طوفان الأقصى” السياسية، بالحدّ الأدنى، فضلاً عن غزارة الكتابات النقدية البنّاءة، التي سعت إلى تصليب الموقف الفلسطيني الثوري والتحرّري على حساب المواقف الانهزامية (بل الأكثر من انهزامية). رغم ذلك، يعتقد كاتب المقالة أن أوان تعديل مسار “حماس” السياسي لم يفت بعد، رغم الضّرر الحاصل حتّى اللحظة، من خلال تأليف ائتلاف فلسطيني مقاوم، عماده فصائل المقاومة الفعلية، والمجموعات المقاومة سلمياً، إغاثياً وإعلامياً وسياسياً وحقوقياً، وسواها، فضلاً عن بعض الشخصيات المعروفة والواضحة في مواقفها التحرّرية والثورية والوطنية، على أن يشمل الائتلاف فلسطين كلّها، قطاع غزّة والضفّة الغربية، بما فيها القدس والأراضي المحتلة عام 1948، سواء من المقيمين داخل فلسطين أو خارجها، بل يفضّل الكاتب أيضاً دعوة غير الفلسطينيين (من الناطقين بالعربية أو بسواها) إلى المشاركة بآرائهم واستشارتهم بالحدّ الأدنى، مع ضرورة وضع معاييرَ واضحةٍ وصارمةٍ لذلك كلّه. على أن يتولى هذا المجلس مسؤولية تأليف لجنة أو حكومة لإدارة قطاع غزّة، بما فيها مسؤولية إعادة الإعمار، والأكثر أهمية مهمّة التفاوض بشأن وقف إطلاق النار، وصفقة تبادل الأسرى، كما يمكنه مخاطبة العالم أجمع، من وسائل الإعلام إلى حركات التضامن حول العالم، وربّما المحافل الدولية ودول العالم.

لم يفت أوان تعديل مسار “حماس” السياسي بعد، رغم الضّرر الحاصل حتّى اللحظة، من خلال تأليف ائتلاف فلسطيني مقاوم

تأليف هذا المجلس سوف يؤمّن للمقاومة الفلسطينية مكاسبَ عدّة، فسيحررها أولاً من عبء متابعة شؤون الفلسطينيين اليومية أو الحياتية، لصالح تركيزها في مهمّة مقاومة الاحتلال. وسيخلّصها أيضاً من مسؤولية التفاوض وتجاذباته، التي تحوّلت في مناسباتٍ عدّة إلى أحد مصادر النقد والضغط الداخلي والخارجي. وسيفتح أمام المقاومة أبواب التواصل مع العالم الخارجي، ولو بطريقةٍ مواربةٍ قليلاً، بعيداً من الفيتو المفروض من قبل الاحتلال وداعمه الأميركي. كما سيحرم تشكيل المجلس الاحتلال من التذرّع بورقة الإرهاب وما شابهها من أوراق، الأمر الذي سيسهّل مهمّة تقويض خطاب الاحتلال وأكاذيبه بحقّ المقاومة الفلسطينية المشروعة. فضلاً عن إمكانية تحرير طاقات الشعب الفلسطيني المُقاوِمة، خصوصاً السلمية منها، وربّما تقويض مسار الاستسلام وزبانيته. فهل تدرك “حماس” أهميّة ذلك قبل فوات الأوان؟

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى