
سُجّلت، أخيراً، موجات قياسية (تقريباً) من إقبال منقطع النظير على تحويل الصور الشخصية والعائلية إلى ما يشبه ملفاً شخصياً وفق أسلوب الرسوم المتحرّكة، التي ابتكرها استوديو غيبلي الياباني الشهير. كان الإقبال عابراً للقارّات والأديان والثقافات، وإن بأشكال متفاوتة، ولم تُبدِ جماعاتٌ الإقبالَ المحموم ذاته لاعتبارات عديدة، غير أن اللامبالاة لا تعبّر ضرورةً عن مواقفَ ثقافيةٍ أو دينيةٍ رافضةٍ لهذه الرسوم، أو متحفّظةٍ تجاه الاستوديو الياباني، الذي غدا إحدى الأيقونات الوطنية للثقافة اليابانية، ومصدر فخرها الفنيّ والثقافيّ.
يُثبت هذا الإقبال العابر للقارّات والأوطان والأديان مرّة أخرى أن الحدود بين المجتمعات والثقافات تتزحزح كثيراً، وأن قدرة التقنيات والفِكَر المبتكر على توحيد الناس، وإنْ في لحظات متبخّرة وعابرة، غدا أمراً يسيراً، فما الذي يفسّر هذا الإقبال كلّه؟
تمنحنا الشبكات الاجتماعية للتواصل (“فيسبوك” تحديداً) مشاعرَ جمّةً توهمنا أننا ننتمي إلى جماعاتٍ تهفو مشاعرها على نبض واحد ومشترَك
قبل الإجابة، لننتبه إلى أن هذا الإقبال على تلك الرسوم لا يصدر بالضرورة من معرفة دقيقة بخلفيات الاستوديو الفكرية، وبنزعة المخرجَين إيزاو تاكاهاتا وهاياو ميزاكي، وأسلوبهما المتفرّد. نشأ هذا الاستوديو سنة 1985 في اليابان، ومنه لمعت موهبة مخرجَيه (صاغا ذائقةَ أجيالٍ بأكملها) عابراً الحواجز الدينية والثقافية كلّها، واستطاعا أن يستفيدا من أبحاث الفلسفة والأنثروبولوجيا التي اكتشفت قارّة “الخيال”، بعد ضيق العقلانية الأداتية الغربية، كما غرفا من مَعين لا ينضب للثقافة اليابانية الموغلة في الخيال بالمعنى الأنثروبولوجي. حلّق المخرجان بتلك الأجيال اليافعة بعيداً، واستدعيا كائنات قادمة من أكوان أخرى تقع في أقاصي الخيال، أو قاطنة في عناصر الطبيعة وأرواح الأجداد والقيم. لم تعد الطبيعة وعاءً للفعل البشري، بل غدت معه كوناً بذاتها؛ ثمّة قصص شائقة وغريبة تموج بين قطبَي الهدوء والسلم، وعواصف هوجاء من الخوف والرعب، لكن ذلك كلّه يجري في ميثاق أيديولوجي قِيمي كوني، فيما يشبه الطائفة بالمعنى الديني، ثمّة احتفاء رهيب بالخيال والطبيعة والأنثى إلى حدّ القداسة.
قد لا تكون هذه الخلفيات العميقة حاضرةً في سلوك تلك الجموع، التي أقبلت بكثافة على تحويل صورهم الشخصية أو العائلية ملامحَ وهيئةً تشبهان تلك الرسوم المتحرّكة، التي رافقت (ولا تزال) أجيالاً بأكملها. فما سرّ الإقبال؟… ثمّة رغبة عارمة في الضحك من الذات (لا السخرية منها)، أي النزعة الهزلية التي تجرف حالياً فئاتٍ واسعةً بعد زمن الكَدَر الطويل، الذي ضرب البشرية بعد أكثر من خمس سنوات على وباء كوفيد – 19 ببؤسه وحزنه اللذين تماوتت معهما الحياة، وهي قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، وما إن هدأت الجائحة حتى حلّت حروب عمّقت جراح الناس وأحزانهم أينما كانوا، الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب على غزّة، والحرب الأهلية في السودان، والحرب الأهلية في اليمن، والحرب الصهيونية على لبنان، فضلاً عن حروب عديدة تمزّق بلداناً تُطحن فيها الأقلّيات الدينية والعرقية، ويطحنها عنف الإرهاب… إلخ. ثمّة حزن عميق يتسلّل إلى شعوب عديدة (والإنسانية قاطبةً) وإن بدرجات متفاوتة، لذلك حرص الناس على أن يجنَحوا، بين فينة وأخرى، إلى شيء من الهزل والدعابة، ولعلّ الناس، وهم يرون صورهم على شاكلة تلك الرسوم المتحرّكة، يكتشفون ذواتهم وقسماتهم وملامحهم وهيئاتهم على شكل آخر لا يخلو من الطرافة. لا يمكن نكران هذا البعد “المَرَحي” (ludique)، فالبحث عن نسائم البهجة في لُجّ القيظ ممتع وجميل. ومع ذلك، لا يمكن أن نغفل بعض الأبعاد الأخرى التي هيّجت تلك الرغبة العاصفة في نقل الصور إلى رسوم متحرّكة كما صاغها أستوديو غيبلي بأسلوب مخرجَيه الفذَّين.
تمنحنا الشبكات الاجتماعية للتواصل (“فيسبوك” تحديداً) مشاعرَ جمّةً توهمنا أننا ننتمي إلى جماعاتٍ تهفو مشاعرها على نبض واحد ومشترَك، وتقوم هذه الأحاسيس الحقيقية أو الكاذبة على فكرة التقاسم، حين تتقاسم صورة أو خبراً فأنت تُبدي اهتمامك بأعضاء جماعتك، ولو لم تكن لك بهم صلة وثيقة ومباشرة. لذلك، يُتيح تقاسمك هذه الممارسة الافتراضية (تحويل الصور إلى أسلوب الرسوم المتحرّكة تلك) لك تحديداً إثبات انتمائك إلى جماعتك. نشر عديدون صورهم مرفوقة بجملة بسيطة “حتّى أنا”، و”لِمَ لا”، “ها أنا بملامح أخرى”. الاعراض عن نشر صورتنا وفق أسلوب الرسوم المتحرّكة يعزلنا ويحرمنا من إثبات انتمائنا إلى هذه الجماعات؛ إنّنا حالة نشاز. ثمّة ما يشبه السأم من أن نكون نحنُ نحنُ دائماً، إنه إعياء الذات كما يراه عالم الاجتماع الفرنسي آلان أرنبرغ، نعبّر في اليوم الواحد بعشرات العبارات المستوحاة من لهجاتنا المحكية أننا “زهقنا من أنفسنا” و”لم نعد نطيق ذواتنا”، أي لم نعد نتحمّل أن نظلّ نحن كما نحن، إنها تجربة مثيرة أن نغادر فيها ذواتنا لحظات لنراها في شكل مُغاير، وفرصة متاحة للتجلّي والظهور، نشبع بها رغبتنا وبعض نرجسيتنا في أن نحتلّ الواجهة، مثل غيرنا، أو أفضل. ولكن، على صورة وهيئة أخرى لم نعشها من قبل.
حزن عميق يتسلّل إلى شعوب عديدة، فحرِصَ الناس على أن يجنحوا إلى شيء من الهزل والدعابة
إنها ذواتنا الأخرى، الابتعاد عن صورة تتلبّسنا دائماً إلى حدّ الإزعاج هو، أيضاً، بحث عن دوافع تضعنا أمام سبل مغايرة لأنْ يكون لنا معنى مغايرٌ لما ألفناه من ذواتنا، ثمّة رغبة في تطليق الذات ولو لحظات، حتى نراها في شكل آخر، فنضحك ملء شدقينا من ذاتنا الأخرى، من دون أن تكون لنا القدرة على التخلّص منها أو مفارقتها نهائياً. أمّا الذين أقلعوا عن تحويل صورهم، فلهم أيضاً أسبابهم الخاصّة والوجيهة، التي لا تخلو من العمق، ثمّة طيف واسع ساءهم أولاً الاعتداء على أيقونات الرسوم التي بها اشتهر استوديو غيبلي، وأسلوب مخرجَيه، وكأنهم تمنّوا أن تظلّ أيقونات لا تطاولها مشاعية التقليد الذي غدا في متناول “من هبّ ودبّ” من رواد الشبكات الاجتماعية. هذه الممارسات الشعبية نفّرت هؤلاء وحوّلتهم حرّاس معبد تلك الكائنات، التي خلقها المخرجان ومنحاها أرواحاً خاصّة. يشكل هؤلاء زهّاد المعبد وأتباعه الخلَّص، والمعجبين بتلك الكائنات التي تعفّفوا عن تقليدها لتظلّ أيقونات لها هيبتها.
المصدر: العربي الجديد