لكل شيءٍ في الحياة ثمنٌ، وهو بطبيعة الحال متغيرٌ بتغيُّر المكان والزمان. عندما تقوم الثوراتُ تكون مدفوعةً بمطالبَ ومظالمَ متعددةٍ لكنَّ منبعَها اختلالُ الميزان والمقاييس لدرجة فوق تحمل البشر، لذلك يدفع الثائر أغلى ما يملك في سبيل تصحيح هذا الميزان المختل، لأنه لم يعد يستطيع تحمله.
لكي تعلم أن أيَّ ثورة تسير في الاتجاه الصحيح ليس من الضرورة أن تنظر للميزان الذي حارب الجميعُ لتصحيحه؛ لأنه نتيجة نهائية تُتوَّجُ بعد سنوات طويلة من الكفاح فلا ثورةَ لتصحيح ميزان تنجح ببضع سنوات حتى لو كان يقودها رسلٌ وأنبياء والتاريخ خير شاهد على هذا.
إذن كيف نعرف أننا بالاتجاه الصحيح؟ هناك عددٌ من المؤشرات لا بد منها؛ منها على سبيل المثال لا الحصر ؛ مناقشة المسلمات القديمة التي اعتاد البشر على تقديسها، أو تُعري شخصياتٍ صنعتها الظروف لا الأصالة فتسقط في البيئات المتغيرة سقوطاً مدوياً، لكن قد يكون ثمنُ العقل والضمير معياراً تدريجياً دقيقاً لتحديد مراحل تطور الثورات ونضجها!
يجادل بعضُ العقلاء أن العقول والضمائر ليست للبيع تحت أيِّ ظرفٍ، لكن اعذرني أيها العاقلُ، فالعقول دائمًا للبيع وكذلك الضمائر ولو بدرجة أقلَّ، هذا واقع الحياة–وليس هناك من معصومين إلا الأنبياء والرسل والنجاح مكتوب لاتباعهم القلة”ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ” -لكن يجب أن يتوجه نقاشنا في معيار الثورة نحو الثمن، هل هو بخس أم لا!
للمقارنة عليك أن تنظرَ خارج الصناديق التي اعتدت عليها حتى تستطيعَ القياسَ بأقرب ما يمكن للدقة. تحررُ الإنسان يجعله لا يبيع عقله وضميره بأثمان بخسة، وهذا ما تجده لدى الإنسان الذي يعيش في نظام حر نسبيًا. في بداية الثورات تجد معيار الثمن في انخفاض على عكس المتوقع، ذلك لأنه يظهر في ذلك الوقت كثيرٌ من المتاجرين الذين يجدون سوقا رائجة للبيع والشراء، وهم في الحقيقة يعدُّونها فرصة ذهبية للبيع بأسعار الصنف الأول الذي لطالما حلموا به -والذي كان حصرًا على زبانية فرعون وسحرته!
بإسقاط هذا المقياسِ على واقعنا الحالي، نجد أن ثوراتِ شعوبِنا مازالت في بداياتها؛ لأن أثمانَ العقول والضمائر مازال منخفضا للغاية حتى أنه أخفضُ من مرحلة ما قبل الثورات، وعليه لابد من القول: إن مرحلة النضج لم نصل إليها بعد، لكننا على الأقل بدأنا ندرك شيئًا من هذا المعيار. فلو أني كتبت هذه الكلمات قبل الثورات لاتَّهمني الناسُ بالجنون، لكن اليوم من هو في مرحلة التصالحِ مع ذاتِه يجد في هذا المعيار جانبُا من الحقيقة التي تلمَّسَها من خلال تجاربه الخاصة. أثمانَ التغيير التي لابد أن ندفعَها حتى ننجح في امتحان الحياة، غالية باهظة الثمن ومن يريد أن يترك له أثراً طيباً في هذه الحياة الدنيا، عليه أن يجعل سعر عقله وضميره غالياً جدا لا يستطيع تحمله البشر “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ”