شلومو ساند مؤرخ يهودي يدرس مادة التاريخ في جامعة ” تل أبيب “. ألف كتابا أسماه ” اختراع الشعب اليهودي “.. تحدث فيه بإسهاب كيف استطاعت الحركة الصهيونية تزييف الوقائع والحقائق التاريخية وتقلبها إلى ما يخالفها ويناقضها لتخلق سلسلة متكاملة من الأكاذيب لتبرر بها احتلالها لفلسطين وإقامة دولة ” إسرائيل “.. بادعاءات الحق التاريخي المزيف لليهود الصهاينة في أرض فلسطين وبوجود عبراني يهودي في المنطقة العربية وما دولة ” إسرائيل ” المصطنعة إلا إعادة الحقيقة إلى التاريخ وتصحيحها للمستقبل..
لسنا نناقش هذه الأباطيل فهي من التهافت بما لا يجعلها تستحق المناقشة.. علما أنها أشبعت تمحيصا ومناقشة من كثير من الأكاديميين والمؤرخين العرب لبيان كذبها وضلالها..
لكننا أردنا الإشارة إليها في هذا المقال للحديث عن جانب آخر يتعلق بسلاح الإعلام..
كان الإعلام هو الوسيلة الأبرز لتعميم تلك الأكاذيب ونشرها وتحويلها إلى مسلمات في العقول المغرضة أو العقول التائهة كما في العقول المفرغة من المضمون..
إن حشو العقول بمعلومات مضللة كاذبة يحتاج إلى نوعين من العقول:
الأول: هو العقول الفارغة..
الثاني: العقول المفرغة..
وعلى هاذين النوعين تتم سلسلة متصلة متكاملة الحلقات للوصول إليها وتهيئتها لتقبل ما يسوق لها من أضاليل وأكاذيب على أنها حقائق تبرر العدوان والاحتلال باعتبارها ” اليهود “هم أصحاب الأرض والأحق بها.. ويلعب الإعلام الدور الأخطر والأهم في هذا السياق..
لن نتحدث عن العقول المغرضة التي يرتبط أصحابها بمصالح أو إرتها نات بأنواع مختلفة؛ تجعلهم يتناغمون مع تلك الأضاليل حيث مصالحهم متوافقة مع دلالاتها ونتائجها الميدانية..
أولا: – أما العقول الفارغة فيجري العمل على. تسطيحها أولا ثم تسخيف اهتماماتها ثانيا ثم تحريض غرائزها ثالثا ثم تطبيعها مع الرذيلة والفاحشة والفساد…وهذا ما يتم من خلال الأعمال التلفزيونية المتكاثرة المتلاحقة والتي تحاصر الإنسان العربي في كل وقت وكل مكان..
منذ سنوات طويلة ومئات الأعمال” الفنية” والتلفزيونية والسينمائية تعمل في هذا المنحى للحصول على عقول فارغة لدى الشباب العربي تحديدا والإنسان عموما.. المسار المتجانس لها جميعا يصب في تحقيق تلك الغايات الأربعة:
١ – تسطيح العقول.
٢ – تسخيف الاهتمامات.
٣ – تحريض الغرائز.
٤ – تطبيع الفاحشة.
ونظرا لما يتمتع به الإعلام الحديث المتطور من إمكانيات ضخمة في الإنتاج والتوزيع والتسويق والتعميم؛ فإنه يعطي تلك الأعمال الفنية الهادفة المكانة المتقدمة ويخلق حولها الاهتمام والتفاعل وبالتالي يعطيها فرصة التأثير وتفعيل ما تصبو إليه من تخريب عقلي في سياق حرب مستمرة على العقل العربي..
ثانيا: – أما العقول المفرغة فهي عقول تحتوي معلومات وثقافة ومعرفة وبالتالي لديها المقدرة على التمحيص وتمييز التضليل من الحقيقة؛ لذا يتم التعامل معها على أساس تفريغ ما فيها من معرفة غير مرغوبة ليتم إعادة حشوها بالمعلومات المناسبة لمن يعمل ويوجه ويقود حرب العقول..
وللوصول إلى تفريغ العقول يتم العمل وفق آليات متنوعة متشابكة متكاملة:
– تشويه الرموز أولا.
– تحريف الحقائق ثانيا.
– طمس الهوية ثالثا.
– تدمير الأخلاق رابعا.
وفي هذا أيضا يلعب الإعلام بأجنحته المتنوعة ومن ضمنها مراكز دراسات وأبحاث ومعاهد ومدارس ومؤسسات تعليمية وإنتاج سينمائي وتلفزيوني إضافة إلى شبكات واسعة جدا من القنوات الفضائية التي تعمل على مدار الساعة.. وجميعها تصب في غايات متشابهة: الحصول على العقول المفرغة مما فيها من معارف أصيلة وحقائق بديهية لاستبدالها بالمعارف المزيفة التي تسهل قبول ما يبتغيه المغرضون الحاقدون وما يطرحونه من رؤى تتعلق بالمواقف المؤدية إلى المستقبل الذي يضمن سيطرتهم..
ولعله من الضروري التذكير ببعض البديهيات المعروفة او التي تحتاج لإعادة التركيز عليها أو توضيحها.. والتي من شأنها أن تنور عقولنا للوصول إلى وضوح أكبر ووعي أعلى فيما يتعلق بالعمل اللازم والممكن للرد على تلك الحروب الإعلامية..
١ – إن الحرب الإعلامية هي جزء من كل أوسع ومن حرب شاملة تستهدف السيطرة على بلادنا ونهب مواردها وتدمير معارفها وقيمها ومناعتها.. وبالتالي ينبغي معالجة الحرب الإعلامية ضمن هذا الإطار..
٢ – إن الأمة العربية مستهدفة في وجودها وتاريخها ومقوماتها وما السيطرة على عقول إنسانها إلا خطوة أساسية في ذلك الاستهداف. وليس هذا بجديد..
٣ – إن غالبية وسائل الإعلام بأنواعها التقليدية والمستحدثة المستجدة المتطورة أبدا؛ تملكها المؤسسات المالية الربوية الرأسمالية العالمية الاستعمارية أيضا..
يدخل فيها الكم الهائل من مراكز الإنتاج المبهرة الحديثة جدا ومراكز الأبحاث النفسانية والاجتماعية والحضارية والعلمية؛ وما يكملها من وسائل التسويق والدعاية والتخريب الثقافي والمعرفي..
٤ – هذه المؤسسات المالكة والموجهة للإعلام الحديث هي ذاتها التي تستهدف الأمة العربية والإنسان العربي وتقود حربا تدميرية متواصلة على وجودهما: الأمة والإنسان. وهي التي تعج بالأكاذيب والأضاليل والتزوير وتشويه سيرة أبطال الأمة ورموزها وخاصة أولئك الذين يتمتعون بمواصفات قيادية عليا ونهج عروبي توحيدي جامع. وتلك الرموز الإيمانية التحررية المتنورة الثائرة والمتمردة على الخضوع والاستكانة..
٥ – إن السلاطين أصحاب النفوذ المحليين وما يملكون من إعلام محلي؛ إنما يتناغمون مع الإعلام الإعلامي وإن بشكل موارب ملتو أو خفي غير مباشر..
إن فعالية الإعلام المحلي مستمدة من ذلك الإعلام العالمي المهيمن..
٦ – غياب الإعلام العربي الحر المنبثق من حاجة المجتمع والتعبير عن آماله وتطلعاته؛ حيث أن كل القوى المنتجة للإعلام الفاعل المؤثر والذي يحتاج ميزانيات رأسمالية ضخمة؛ تملكها رأسمالية محلية غير وطنية ترتبط مصلحيا بنظام العولمة الرأسمالية العامة. وبالتالي فلا تنتج أعمالا فنية إلا وفقا لذات التوجهات الإعلامية العالمية والتي تستهدف الأمة والإنسان..
٧ – وحيث أن الأعمال الإعلامية الحديثة أصبحت عملية رأسمالية مكلفة ليست في متناول المجموعات الوطنية الحرة..وحيث أن هذه المجموعات أيضا مستهدفة من ضمن الاستهداف العام للأمة ؛ فقد حجبت عنها كل الإمكانيات لا بل تتعرض للحصار والمضايقات من السلطات المحلية التابعة ..وبالتالي لا تستطيع إنتاج ما يجب من أعمال فنية مرموقة هادفة تستطيع تلبية حاجات المجتمع والناس ؛ تنور عقولهم وتمتع أوقاتهم وتحمي نفوسهم وتملأ عقولهم بالمعرفة والقيم وأسباب المناعة..فيبقى الناس أمام خيارات وحيدة ركيكة سخيفة تافهة هادفة لتفريغ عقولهم وتدمير مناعتهم..وهذا ما هو حاصل حاليا..فأصحاب المال باتوا من أرباب السياسة يتكاملون في ظل تبعية مصلحية خرقاء جاحدة..
٨ – يشكل غياب مشروع عربي توحيدي جامع واع بأبعاد الإستهدافات العامة وتوجهاتها؛ يزيد المشكلة تفاقما وتعقيدا ويزيد الحاجة الملحة لحماية العقل العربي ومواصفاته المطلوبة..
٩ – إن جزءً اساسيا من هذه السمات التي يحرص عليها ويتولاها الإعلام العالمي الرأسمالي المتصهين؛ تعبر عن نظام العولمة ذاته وما يحمله من قيم استهلاكية فردية نفعية بعيدة عن الإنسانية والأخلاق والالتزام الوطني أو المجتمعي..
فعقل العولمة يستهدف العقول لتسطيحها وتفريغها وحشوها بالضلال والتفاهة والسخافة والانحلال. وهذه أصبحت ظاهرة إنسانية عامة مرتبطة بنظام العولمة الفاسد المهيمن..
لكنها تتركز بشكل مكثف أكثر على العقل العربي والإنسان العربي من ضمن استهداف أمته ووجودها..
إن أعداد الأقنية الإعلامية والفضائية الموجهة للإنسان العربي كثيفة جدا ومتنوعة جدا بحيث تفوق كل إعلام موجه لأية أمة أخرى..
١٠ – إن المناعة الأخلاقية النابعة من الإيمان الديني والعمق الحضاري للإنسان العربي، تشكل أبرز العوائق الراهنة أمام السيطرة على العقول والنفوس؛ لذا يتم التركيز على كل ما يشيع الرذيلة والفاحشة والفساد وتطبيع النفوس والعقول معها؛ ثم محاولة استبعاد الإسلام من الفعالية الاجتماعية – الإنسانية لأنه المصدر الأساس للقيم الأخلاقية – الاجتماعية المستهدفة..
على أساس هذا الفهم العام للحرب المستهدفة لعقل أمتنا وعقل إنسانها العربي؛ نرى خطورة هذا الكم الهائل من الأعمال التلفزيونية المعروضة حاليا في جميع القنوات التلفزيونية وفي غيرها من مصادر الإنتاج والتسويق الإعلامي الدعائي..
مزيج من التفاهة والرداءة الأخلاقية والثقافية والتحريض على التشبيح والفساد والنفعية الكريهة والابتذال في كل شيء. مع غياب أية جوانب معرفية مفيدة أو ذات قيمة..
إن استباحة العقل العربي وتفريغه من أية معرفة حقيقية مفيدة وحشوه بالضلال والتفاهة؛ تشكل تهديدا خطيرا لمستقبل الوجود العربي كله..
إن صيانة العقل مقدمة لضمان فعالية التفكير وجدوى الفعل.. فإلى أن ينشأ مشروع عربي للمواجهة والرد على العدوان؛ هل يبقى العقل العربي تحت ضغط وتحريض هذه الأعمال الشائنة المشينة؟؟
وإلى متى؟؟ وهل تحتمل أوضاع الأمة مزيدا من التدهور المعرفي والثقافي والأخلاقي؟؟
هل نلوم الإنسان العربي الذي يتعرض وحيدا لهذه الحروب القذرة كلها؟
وهل يملك الإنسان الفرد القدرة على معرفة الحقيقة وكشف التزييف والأضاليل؟؟
هل يتسنى له من الوقت ما يكفي لتحصيل المعرفة أصلا، وهو المستنزف الغارق في هموم معيشته وتحصيل أسبابها بحدها الأدنى؟؟
وهل تتوفر أمامه أصلا مصادر حرة أمينة لتزويده بالمعرفة السليمة وتشكيل وعيه بأمانة وإخلاص؟؟
أليست كثافة المعلومات المضللة وتناقضاتها المتعمدة؛ سببا في تشويش العقول وإبعادها عن الحقيقة والمقدرة على الفرز والتدقيق؟؟
أليست المعرفة الواعية بالتاريخ وبالهوية؛ عملا تربويا تعليميا تتحمل مؤسسات الدولة مسؤوليته التامة؟؟
أليس بوسع بعض المتمولين العرب الشرفاء تأسيس مدينة إنتاج إعلامي عربية حرة هادفة تذود عن عقولنا ونفوسنا لوجه الله تعالى؛ الحق العدل؛ وفداء لمستقبل الأمة؟؟ رحم الله المخرج الفذ مصطفى العقاد الذي أدرك أبعاد هذه الحرب فرد عليها بمثلها فقتلوه.