رغم كل ظروف القهر وسلب الحرية والعسف الأسدي، وواقع المعاناة المعيشي اليومي، فقد تمكنت السويداء بشبابها وكهولها، نساءها ويافعيها من الانتفاض مرة أخرى وجديدة متجددة.
وحجزت لنفسها المكان المرموق ضمن حالات الحراك المنتفض في مواجهة الطغيان الطاغوتي الأسدي، وهو تحرك طبيعي ومتوقع، لما للسويداء وشعبها وقواها الوطنية والثورية من عمق في قعر المجتمع السوري، والتاريخ القديم والحديث للفوران الوطني الثوري الشعبي، وهي مازالت في المخيال الشعبي السوري برمته ماثلة وواضحة المعالم.
تتحرك السويداء اليوم استمرارًا لسلسلة تحركات عملت عليها خلال سنوات الثورة السورية في الأعوام المنصرمة، فكانت من أولى المحافظات التي تحركت نصرة لدرعا وتماشيًا وطنيًا صرفًا مع باقي المواقع الوطنية الثائرة ضد حكم آل الأسد، وضد الفساد المتعشش في جوانية السلطة الأسدية، والذي كان ومايزال نهجًا ممارسًا للدولة الأمنية المخابراتية التي وَجدت في الوطن السوري وخيراته وموارده فسحة وحيزًا للانفلات العصاباتي وصولاً إلى مزيد من النهب، والتغول على الوطن كل الوطن، فهيمنت على البلاد والعباد وألغت السياسة من المجتمع، وجرَّت الناس إلى سجون القهر ومعتقلات الظلام، وكان دائمًا لنشطاء السويداء ولشعبها الواعي المثقف النصيب الأكبر في الكثير من المداهمات وعمليات الاعتقال، والمزيد من الشهداء تحت التعذيب الذين سجلهم وسطرهم (قيصر) ضمن صوره التي أضحت نموذجًا عالميًا للقهر والمعاناة والاعتقال السياسي الذي يفضي عند حكام الطغيان والاستبداد إلى القبور.
في إطلالتنا اليوم على مايجري في السويداء من حراك وطني ثوري متواصل ومستمر منذ ماينوف عن أسبوع، لابد أن نقف عند بعض المؤشرات التي توصلنا إلى معطيات ماهية الحراك وإلى أين تسير مآلاته، وهل يفضي بالفعل إلى العصيان المدني المنشود؟ وكيف يمكن ان تتمكن ثورة السويداء من تحقيق آمالها المنسجمة بالضرورة مع تطلعات كل السوريين في باقي محافظات سورية.
_مايلفت المتابعين لهذه الثورة /الانتفاضة لأهل السويداء أن فيها شكلًا من أشكال العمل الوطني المنظم، فهناك حراكًا وحركة منظمة تقود الحراك، بشكله اليومي، وتعمل بشكل واعي على كيفية الاشتغال العقلاني على تصاعد هذا العمل دون إعطاء الفرصة للنظام المجرم من أجل الانقضاض على الناس وتحويل الحراك إلى دماء تسيل. الحراك بالفعل يأخذ طابعًا مؤسساتيًا وتنظيميًا ملحوظًا وهذا الأمر بحد ذاته هو بمثابة تطور كبير في شكل العمل الوطني في السويداء، ويكون الناس بذلك قد تعلموا الدروس من تحركات الماضي وأخذ بالدروس المستفادة من السابق.
_ المسألة الأخرى التي تلفت النظر أن عملية نقل الحراك من ساحة الكرامة، وهي الساحة التي سبق وأن أسقط ثوار السويداء فيها تمثال الأسد وكنسوه منذ سنوات، وهي تمتلك رمزية معينة، لكن مع ذلك تم نقل الحراك إلى ساحة مقام (عين الزمان) وهو مركز مشايخ عقل الطائفة، ولهذا المكان أيضًا رمزية كبيرة يخشاها النظام، ويحسب لها ألف حساب، فيما لو قرر الانقضاض على الناس المنتفضين. فهي تقع أمام المؤسسىة الدينية وضمن حمايتها إن صح التعبير.
_ مع ذلك فهناك تخوفات كبرى من محاولات الاختراق الأمني من قبل النظام القمعي، ومن ثم تسلل بعض العناصر الأمنية التشبيحية والعناصر المشبوهة لتفجير الوضع، ونقله إلى الحالة الدموية، وهو ما يحتاج إلى الكثير من الوعي، مازال شباب السويداء حتى الآن مدركين له وممسكين في وعي وإدراك بناصيته لعدم إفساح المجال لهذه العناصر المشبوهة من الدخول أو تخريب الحالة وتحويلها الى مأساة كبرى.
_ مسألة أخرى مابرح شباب الحراك في السويداء يأملونها ويناشدون ويتوقعون الوصول إليها، وهي قضية التضامن الوطني على امتداد الساحة الوطنية معهم، فالتضامن من باقي محافظات سورية مازال أقل من المتوقع، ولم يرتق بعد إلى المستوى المطلوب والمأمول وهو مايريده ويتمناه أهل السويداء، ليعطيهم الدفع المعنوي الأكبر، ويملكهم القدرة على المتابعة ضمن حالة ثورة وطنية سورية، لاتنحصر في مدينة أو محافظة بعينها، بل تمسك بآليات التضامن والتآزر، كما حصل مع بدايات الثورة السورية عام 2011. إذًا مازال التضامن والتحرك الشعبي السوري في محافظات أخرى (حتى من المعارضة السورية بكل تلاوينها) لم يأخذ البعد الحقيقي المطلوب وإن صدرت بعض ملامحه هنا أو هناك. فالمطلوب أكثر وأوسع كما يقول شباب الحراك.
_ قضية أخرى لابد من الإشارة إليها وكشفها وهي تمظهر بعض حالات التشدد الديني والعصبيات الطائفية المنفلتة من عقالها، والتي مازالت تتعامل مع الحراك في السويداء على أنه حراكًا طائفيًا محليًا للطائفة الدرزية، دون النظر إلى أهميته كجزء من الحالة الوطنية الديمقراطية الواعية والمنتمية إلى جملة حراكات ثورة الشعب السوري، ثورة الحرية والكرامة، التي لم تكن يومًا ذات أفق طائفي ولن تكون. وهي إحدى المؤشرات التي لابد من محاربتها ومنع تمظهرها، ووأدها، لأن أهل السويداء هم جزء أساسي من نسيج المجتمع السوري وهم أنفسهم من قادوا يومًا الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925. ويؤلمهم جدًا أن ينظر البعض (ولو كان قليلًا) إلى حراكهم على أنه تحركًا طائفيًا ليس إلا.
ويبقى السؤال الأهم هل يمكن وضمن هذه الظروف الآنفة أن يتحول الحراك الشعبي في السويداء إلى ثورة شعبية عارمة، وصولاً إلى العصيان المدني الذي طالما حلم به السوريون في ثورتهم، وهو فقط من يسقط هذا النظام المجرم.
وهنا لابد من دراسة واقع السوريين في دمشق أولًا وباقي المحافظات وكذلك في السويداء، وإدراك الواقع الميداني الذي حوله النظام إلى هذه المآلات بعد 11 عامًا من القتل والاعتقال وضرب السوريين بالكيماوي والبراميل والصواريخ. صحيح أن أهل السويداء وكل السوريين يأملون الوصول إلى حالة العصيان المدني الكامل والشامل، لكن ذلك وفق المعطيات الآنية ليس سهلًا، وأمام التخلي المعولم من معظم (أصدقاء الشعب السوري) عنه، وتركه للقمع والمقتلة الأسدية، لايعطي الكثير من التفاؤل، مع ذلك فإن المتغيرات المتدحرجة في الواقع السوري، يمكنها أن تحرك الوضع حتى داخل دمشق وتحوله إلى انبثاقات تغييرية جديدة، بعد أن وصلت الحالة المعيشية لدى السوريين إلى مالايحتمل أبدًا، وأصبح الموت ماثلًا أمام أعين الجميع، إما جوعًا أو قتلًا أو اعتقالًا أو بردًا وثلجًا.
العصيان المدني هو ماتبتغيه ثورة السويداء وكذلك ثورة السوريين، فيما لو تهيأت الظروف والمعطيات لدعم مثل ذلك، ويبقى أنه ليس مستحيلًا، لكنه من الصعوبة بمكان استنادًا إلى واقع الشعب السوري المر، رغم أن هذا الشعب بقضه وقضيضة مازال ممسكًا بفكرة التغيير، ولايمكن أن يتراجع عن ثورته، بدلالة تجدد هذه الثورة الشعبية الجديدة اليوم في السويداء.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا