لم يترك السيد غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة فرصة تمرّ في الشهر الأخير، إلّا وكرّر فيها التعبير عن مخاوفه من انتشار فيروس كورونا في سوريا وليبيا واليمن خصوصاً. وهو في ذلك يرجع إلى حالة انفلات الأمن وغياب سلطة الدولة أو ضعفها، مع وجود صراعات مسلحة على الأرض، وحالة يصعب التحكم فيها أو إقناع الناس باتخاذ الحيطة مع وجود ضياع وبؤس بالأساس.
وما يطلبه غوتيريش هو الحد الأدنى من متطلبات مقاومة الوباء، وتمكين الآخرين من تقديم العون، المتمثّل في وقف حقيقي لإطلاق النار، وفتح الأبواب أمام المساعدات الإنسانية، والصحية، التي يُتوقَّع ازدياد الحاجة إليها بشكل حادٍّ قريباً.
هنالك سمات خاصة، ربما قومية ودينية، تاريخية واجتماعية وثقافية، تجعل هذه البلدان متشابهة إلى حدٍّ ما، مع تفاوتٍ وفروقات إلى هذا الحدّ أو ذاك. فتأثير القبائل والعشائر والمناطق موجود، وله دورٌ في التحزبات والعصبيات في البلدان الثلاثة، إضافة إلى المذهبية والتشدّد الديني والبيئة المتفهمة جزئياً لتواجد القوى الموسومة بالإرهاب أيضاً. وكذلك يتوزع التعلّق باقتناء السلاح واستخدامه بشكلٍ يكاد يكون فطرياً وبدوياً، مع استعداد قوي لاستقبال التدخل الخارجي، والترحيب به. ذلك كله متعلق بعضه ببعضه، ويترابط.
تحتاج المعركة مع فيروس كورونا إلى دولة منظمة، تحتكر السلاح واستخدامه، وإلى سلطات صحية تحتفظ ببنية تحتية قوية، فيها الأسِرّة وغرف العناية المشددة وقابلية التعقيم، ومجتمع يقبل الالتزام بالنظافة الطبية والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وإلى قدرات معيشية وغذائية وتوفّر للمتطلبات والمستلزمات وتوزيعها من دون فوضى، وإلى ثقة متبادلة بين السلطة المفترضة والناس، وبين الناس أنفسهم، وإلى حالة نفسية اجتماعية عالية، قادرة على الاحتفاظ بالهدوء اللازم للمقاومة الطويلة الأمد، والتمتع بمعنويات تكفي لتحمّل الخسائر والعبور إلى ما بعدها… وهذا يكاد يكون مستحيلاً في تلك البلدان. ولكن يبقى أن الصحيح أولاً هو وقف إطلاق النار؛ الذي ينبغي أن يتقدّم بشكل مطلق على أي شعارٍ أو ممارسة أو اهتمام؛ حتى يكون ممكناً التفكير بهذا المستحيل، وتقليل خسائر الأسابيع أو الأشهر المقبلة، بمساعدة المجتمع الدولي طبعاً. وسوف تكون محاولة للإضاءة على بلدي سوريا في ما يلي.
هنا، حذّرت منظمة الصحة العالمية، كالأمين العام للأمم المتحدة، من انفجار بأعداد الإصابات، بشكل مثيرٍ للرعب، خصوصاً مع التأخر الكبير بالحديث عن وجود أي إصابات، بل كان هنالك تفاخر أجوف بنظافة البلاد من ذلك العدوّ الوافد، وصل مع أحد الوزراء إلى حدّ تشبيهه بالثوار، حين افتخر بقدرة النظام على القضاء على «الجراثيم»، في تعبير مخيف عن مستوى الذين سيقودون البلاد في هذه الأزمة.
وفي العاشر من مارس أبلغت الحكومة الباكستانية، عن ست إصابات مقبلة من سوريا، ثم أعلن محافظ كربلاء في التاسع والعشرين من الشهر نفسه عن وجود 15 إصابة هناك» معظمها من سوريا» أيضاً. في حين تحدثت الحكومة السورية في الثاني والعشرين عن أول إصابة وافدة من الخارج، وفي التاسع والعشرين عن وفاة، وفي الرابع من إبريل عن وفاة واحدة، ثم استقر عدد الإصابات على 19 لفترة من الزمن، تم الإعلان خلالها أيضاً عن حالات شفاء. يؤكد ذلك العبث وتلك الفوضى، صحة قلق من راعهم احتمال انفجار الوضع هناك.
وكانت الحكومة السورية قد مهدت للإعلان عن أول إصابة قبلها بيوم واحد، حين أمرت بإغلاق الأسواق والأنشطة التجارية والخدمية والثقافية (مع تركيز على توقيف نشاطات دار الأوبرا.. لسخرية الزمان واللغة) والاجتماعية في جميع المحافظات، وتعليق العمل في الجهات العامة، بدءا من يوم الغد( الذي صدر فيه بالصدفة الإعلان عن أول إصابة)، حسبما نقلت وكالة أنباء النظام. ونسخَ القرار تعليمات الدول التي سبقت على ذلك الطريق، فاستثنى مراكز بيع المواد الغذائية والتموينية والصيدليات والمراكز الصحية الخاصة.
كذلك طلبت رئاسة الوزراء من الوزارات «اتخاذ القرارات اللازمة لتعليق العمل في الوزارات، والجهات التابعة لها، والمرتبطة بها، التي لا يشكل تعليق العمل فيها عائقاً أمام مواجهة مخاطر انتشار فيروس كورونا».. ويشمل التعميم «تقليص أعداد العاملين المداومين في الجهات التي يكون من الضروري استمرار العمل فيها إلى أدنى حد ممكن»، علماً أن أولئك العاملين أساساً خارج نطاق الانضباط والالتزام، لظروف غياب الأمن، وتفرّق المناطق، وانحلال مركزية المؤسسات.
يتركّز الخوف على السوريين المقيمين تحت سيطرة النظام، على الآثار الصحية البليغة التي يمكن أن تنتج عن انتشار العدوى بشكل جماعي، خصوصاً في ظروف ضَعُفت فيها الدولة، تحت ضربات مستمرة من قبل النظام وحلفائه، بين ميليشيات داخلية وخارجية، وعصابات واحتلالات؛ وتراجعت بنيتها التحتية في جميع جوانبها، وفي جسمها الصحي خصوصاً، الذي ترى بعض الإحصائيات أنه قد تعطّل بنسبة 50%، بالقصف الحكومي والروسي، وبالفساد وفوضى السلطات القائمة هنا وهناك. هنالك خصوصاً نقص حاد في سوريا حالياً بالكوادر الطبية، التي كان من بينها 923 شخصاً فقدوا حياتهم، من بينهم 269 طبيباً. وباعتبار أن ذلك قد حدث بجزئه الأكبر بين عامي 2012 ـ 2014، فينبغي تفهم أن الجسم الطبي، خصوصاً جزءه الرفيع الاختصاص، وجد طريقه إلى الهروب من المجزرة إلى الخارج. في أوائل عام 2014 مثلاً وللقياس، قال نقيب الأطباء السوريين؛ وهو واحد من المسؤولين الذين يكذبون عادةً؛ إن ثلث أطباء سوريا الأكثر مهارة تركوا البلاد. فإذا أضفنا إلى ذلك ضعفا وعَوَزا مدقعا في البنية التحتية الأساسية، خصوصاً في لوازمه الحالية، من غرف عناية مركزة وأجهزة تنفس تحتاجها مقاومة الجائحة، ندرك أسباب خوفنا، ولو بمعالمها الأولى.
ورغم ذلك، يعرف السوريون جيداً، من يعارض النظام ومن يواليه، أن أطباءهم وجهازهم الصحي البشري في أساسه لا ينقصه المستوى العلمي والالتزام، وأنه لو تمتّع بالقدرة على القيادة، وتوفرت له مؤسسات دولة متماسكة ومجهزة، لقام بالمعجزات.
أولئك نعرفهم، ونعرف تركيبتهم الطليعية التي جعلتهم، مثلاً، في مقدمة الشعب السوري، مع المهنيين الآخرين من محامين ومهندسين وصيادلة، في إضراباتهم وحركتهم الشجاعة في انتفاضة 1980 السلمية (لا تلك المسلحة- الإسلامية المتطرفة آنذاك)، قبل انقضاض النظام الفاشي على نقاباتهم ولجمها، وتفريغها من قدراتها.
وفي سوريا مناطق أخرى تحت سيطرة قوى محلية أو خارجية، منفلتة من إسار الانضباط الاجتماعي، مضروبة الجهاز الصحي، متأزّمة اجتماعياً ومعيشياً وسياسياً واقتصادياً، لديها مشاكل موازية أمام الجائحة، وأفضليتها الوحيدة هي في غياب النظام في هذه الحالة، كلياً أو جزئياً، ما يمنع عن الناس فعله السلبي، ويتيح من ثَمّ، إمكانية تدخل مباشر من منظمة الصحة العالمية أو المجتمع الدولي.
في مناطق النظام، هنالك ما يشبه الحكومة قليلاً، ويشبه الدولة قليلاً، ولكن هنالك إلى جانب الفساد والتفسخ فيهما، ووجود مراكز قوى مافويّة في كلّ زواياهما، سلطات أمر واقع تلقائية في كلّ مكان، وسلطات روسية وتركية وإيرانية ومشتقات محلية أو غريبة منها جميعاً. في الحالة التي تراجعت إليها اللُحمة الاجتماعية، وانتعشت لُحماتٌ أخرى، طائفية ودينية وقبلية ومناطقية ومحلية وغريبة، أصبحت طرق نفاذ فيروس كورونا مقلقة فعلاً، لن يحمي منها إلا المبادرات السريعة والشجاعة، التي تطوّر التضامن والتكافل والانضباط وحسّ المقاومة وإرادة الحياة. وفي سياسات ذلك الفيروس ما يشجّع على الأمل، في ضعفه أمام الأطفال والشباب وأصّحاء البدن والذهن.
ربّما كان أيضاً لأولئك السوريين في خارج البلاد، من أهل الاختصاص والقدرات المادية والمعنوية خصوصاً، ما يجتمعون حوله، ليمنعوا عن بلادهم الكارثة، أو ليخففوا من نتائجها أيضاً. وبالفعل هنالك مبادرات ومؤسسات مدنية، ابتدأت في هذا الميدان، لعلها تتطور وتعمّ وتصبح ظاهرة سورية جديدة… والحديث في معظمه، يصحّ أيضاً على اليمن وليبيا، وعلى العراق ولبنان والسودان، بتفاوت وتنوّع طبيعي وسماتٍ وطنية، أو بالأحرى لا وطنية ولا مواطنية.
المصدر: القدس العربي