قبل عودته إلى روسيا العام 1994 حذر الأديب الروسي الكبير الحائز على نوبل للآداب ألكسندر سولجنتسين من “ركام الشيوعية”. فمن كتب “ارخيبولاغ غولاغ” و “جناح السرطان” وسواهما عن حياة معتقلات الموت السوفياتية، كان يدرك أن الشعوب التي أُخضعت بالحديد والنار للتجربة البلشفية، لن تنتهي معاناتها مع سقوط الهيكل البلشفي، بل ستعاني طويلاً قبل أن يستقيم تطورها على طريق التطور الذي تسلكه البشرية منذ ملايين السنين. فما من شعب وقع في قبضة البلاشفة مباشرة بعد إنقلابهم على الثورة الروسية الديموقراطية العام 2017، أو في قبضة إحتلالهم بعد الحرب العالمية الثانية، إلا وما زال يئن حتى اليوم تحت ركام الهيكل البلشفي. العديد من هذه الشعوب إنتفضت ضد هذا الإحتلال في مطالعه : من الألمان الشرقيين إلى المجريين ثم التشيك والبولونيين، إلى أن انهار نهائياً أواخر الثمانينات، لكن ركامه ما زال يربض حتى الآن على الصدور.
آخر الشعوب التي علا صوت أنينها مطلع العام الحالي كان الشعب الكازاخي. إنطلقت إحتجاجاته في 2 من الشهر الجاري في مدينة واحدة في منطقة النفط الكازاخية، إحتجاجاً على إرتفاع سعر الغاز المسيّل، وسرعان ما انتقلت إلى العاصمة ومعظم أرجاء كازاخستان. كما انتقلت بسرعة أيضاً الشعارات من مطلبية إقتصادية إلى سياسية تطالب برحيل العجوز نور سلطان نازاربايف الرابض على صدر الكازاخيين منذ العهد السوفياتي، ورحيل صنيعته رئيس الجمهورية والحكومة، بل وإسقاط “نظام نازاربايف السوفياتي”.
مساء الخميس في 6 من الجاري شاركت ناشطة على الفايسبوك رسالة للمواطن الكازاخي رسلان يتحدث فيها عن حال أسرته في الوضع الراهن في بلاده. يقول رسلان بأن الوضع متوتر للغاية، المطار مدمر ومهدم بالكامل، حيث تقف الطائرات، يعج الآن بالناس الذين يدمّرون في طريقهم كل شيئ. السيارات تحترق، يضربون العاملين في المطار حتى الإغماء، الفوضى تعم المكان. ” لا نعرف ما الذي ينتظرنا في الغد، لا نستطيع النوم، نجلس في العتمة قابضين بأيدينا على مجرفة بإحكام”.
استصدر الكرملين قراراً من “منظمة التعاون الأمني” لتلبية طلب الرئيس الكازاخي التدخل العسكري للقضاء على “التهديد الإرهابي”، حيث تنشط في كازاخستان “عصابات إرهابية جرى إعدادها في الخارج”.
توجهت “المدن” إلى إختصاصيين وكتاب سياسيين وصحافيين روس بعدد من الأسئلة حول تقويم الحدث الكازاخي وإشاعات فرار نازاربايف إلى جهة مجهولة، وما إذا كانت ستتحول الإحتجاجات إلى ثورة.
المتخصص بشؤون الشعوب التركية يوري مافاشيف يعتبر أن طبيعة هذه الإحتجاجات واحدة للفضاء ما بعد السوفياتي. غياب القيادة للإحتجاجات ظاهرة مميزة لها جميعها. فالسلطة في “بلداننا” تعمل ما بوسعها ليس فقط للقضاء على المعارضة الشرعية، بل ولإجبار الناس على التخلي عن عملية التفكير، عن الفهم وتحليل الوضع. ومن الطبيعي برأيه في الظروف المشابهة أن يلتحق بالإحتجاج مثيرو الشغب واللصوص وسواهم من الفئات المهمشة الموجودة في كل مجتمع ، وهذا “ما نشهده اليوم في كازاخستان”.
وعن إشاعات فرار نازارباياف يقول مافاشيف بانه لم يتصرف كزعيم يستحق تماثيل كثيرة وتسمية العاصمة بإسمه. وظهر سياسياً وإنساناً ضعيفاً، دمّر بصمته في عيون الناس النظام الذي كان لا يزال شكلياً قادراً على البقاء لفترة ما يصعب الآن تحديدها.
وبشأن إحتمال تحول الإحتجاجات إلى ثورة، يرى الرجل أن الميزة الأهم للثورة تقوم في إعادة النظر الجذرية في العلاقات الإجتماعية. ويشكك في إستعداد الشعب الكازاخي لمثل هذا، فليس الأمر واحداً كما لو أنك تقوم بالإحتجاج في الساحات. فالثورة تحتاج لقوة سياسية منظمة جيداً، تبدأ بدعم من الشعب بالتغيير الجذري للمجتمع، “ولست أرى لا مثل هؤلاء الأشخاص ولا مثل هذه القوة”.
الباحث الزائر في معهد الشرق الأوسط في واشنطن أنطون مارداسوف، قال بأنه ليس إختصاصياً في شؤون آسيا الوسطى التي تطغى عليها العلاقات العائلية، وأشار على “المدن” بالباحث العلمي في مدرسة الإقتصاد العليا في موسكو يفغيني إيفانوف. في رده على إشاعات فرار نازاربايف، قال إيفانوف بأن نازاربايف إختفى من المجال العام. وبعد ثلاثة عقود من بناء عبادة الفرد يبدو صمته في الأيام الأخيرة نافراً للغاية. حتى قرار إستقالته من منصب رئيس مجلس الأمن القومي لم يعلنه بنفسه، بل ترك الأمر للرئيس توكاييف.
يتحدث الرجل بتفاصيل عارف الوضع عن كثب بشأن من يكون قد ترك كازاخستان من أثريائها ورجال أعمالها عبر مطارات خاصة، ونقلوا أموالهم إلى سويسرا أو بريطانيا أو الإمارات العربية المتحدة. ويشير إلى إحتمال أن يكون قد غادر الى لندن صهر نازاربايف “أحد أكبر أثرياء كازاخستان”، والذي يملك ثروة عقارية كبيرة في العاصمة البريطانية.
ويعتقد أن نازاربايف، وبسبب المخاوف على أمنه الشخصي، يمكن أن يكون قد غادر إلى روسيا.
وعما إذا كانت الإحتجاجات يمكن أن تتطور إلى ثورة، قال إيفانوف بأن الإحتجاجات الراهنة هي الأكبر في تاريخ كازاخستان بعد السوفياتية. ومع أنها بدأت سلمية، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى أعمال شغب، حيث انتقل المحتجون إلى الإشتباك مع الشرطة واحتلال المباني الإدارية، بما فيها السيطرة لعدة ساعات على مطار ألماآتا. وهذا ما دعا الرئيس إلى الإستنجاد بقوات “منظمة التعاون الأمني”.
ويرى إيفانوف أن الإحتجاجات الحالية، جزئياً، هي ثورة، حيث تمكن الكازاخيون خلال 3-4 أيام من الحصول على تنازلات من السلطة لم يتمكنوا من الحصول عليها على مدى عقدين من الزمن. لكنه يرى أن تقويم التغيير في القيم غير ممكن الآن، وينبغي ان يمر الكثير من الوقت حتى تخرج كازاخستان إلى مستوى آخر وتعطي الثورة ليس ثماراً سريعة النضوج، بل تغيرات نوعية طويلة الأمد.
الصحافية في RT الروسية يوليا يوزيك تقول بأن الثورة إنتهت ما أن بدأت. وهي تتوقع تراجع النشاط الإحتجاجي قريباً، وتحويل طاقة المتظاهرين إلى القنوات الإجرامية و”الإرهابية”. العمل جار منذ الآن على تشويه صورة الإحتجاج، وستتولى قوات “منظمة الأمن الجماعي” تنظيف الإحتجاج المشوه، ولن يتولى الروس هذا العمل، بل سيعهدون به للبيلوروس ذوي الخبرة في قمع الإحتجاجات.
وتفترض ان كازاخستان ستصبح تحت الإنتداب الروسي كدولة حليفة، وسيتم إطلاق سراح بعض أكثر المتشددين في الدعوة إلى إعادة التوحيد مع روسيا الذين سجنهم نازاربايف. وتعتقد أن دبلوماسية الظل قد حسمت هذه القضية مع واشنطن، وأن كازاخستان، كمنطقة عازلة، ستدخل منطقة نفوذ روسيا، وليس الصين. وترى أن نازاربايف وبوتين، وبموافقة واشنطن، رتبا أمر مغادرة نازاربايف وقدمت له “مظلة ذهبية”. ولا تستبعد أن يكون حشد القوات على حدود أوكرانيا ستاراً لعملية كازاخستان. وترى أن “إنذار” بوتين ووزارة الخارجية الروسية للولايات المتحدة، ليس أكثر من إشارة إلى صفقة أبرمت بنجاح حول تقاسم مناطق النفوذ. وحصلت روسيا على موقع أسيوي مهم إستراتيجيا وغني بالموارد يفصل بينها وبين الصين وأفغانستان كمصدر للتهديدات الإقليمية.
المصدر: المدن