بعد تعثر طويل أفضى إلى فراغ تنفيذي بغياب الحكومة يتسع هذه المرة بغياب رئيس الوزراء نفسه، بكل ما كان يحمله من رمزية لثورة ديسمبر (كانون الأول) ومدنية الحكم، لتدخل الأزمة السودانية منعطفاً جديداً ربما أكثر حدة، وما بين الشعور بالعرفان للفترة التي أمضاها رئيساً للوزراء ومحاولاته الجادة في العبور بالبلاد إلى التحول الديمقراطي، وخذلان القوى السياسية، ودع الشارع السوداني عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي، بعدما عجز عن إنجاز التوافق السياسي الوطني الذي ظل ينادي به من خلال مبادرات عدة طرحها خلال توليه رئاسة الوزراء، لكنها لم تجد آذانا صاغية، فضلاً عن الوتيرة المتسارعة للانقسام بين الشريكين، ما أثر في فعالية وأداء الدولة كما وصف في خطاب استقالته.
اختناق مروري وسياسي
صبيحة مليونية الـ30 من ديسمبر الحالي، لا تزال بعض الجسور مغلقة ويسود الاختناق المروري والأمني والسياسي شوارع الخرطوم، وسط جداول معلنة من لجان المقاومة لمليونيات في الشارع طوال يناير (كانون الثاني) الحالي، تحت شعار “لا شراكة لا تفاوض لا مساومة”، فيما سادت المجالس الإشاعات والتكهنات وسط تأكيدات باستمرار التظاهرات.
كثير من الاستفهامات والتساؤلات، هي سيدة الموقف في الشارع السوداني اليوم، حول كيف نعبر من دونه وهو صاحب هذه العبارة الشهيرة “سنعبر وسننتصر”؟ ومن البديل الذي سيخلف حمدوك؟، وما الآلية التي ستؤول إليها مسؤولية اختياره؟ هل هو مجلس السيادة الانتقالي، أم القوى السياسية؟ وكيف يمكن لها أن تتوافق في ظل واقع الانقسامات الذي دفع حمدوك إلى مغادرة المشهد السياسي؟ وهل تتبعه استقالات أخرى؟
وتعيد استقالة حمدوك المشهد السياسي الانتقالي إلى نقطة الثورة، ووضع القوى السياسية على محك الشارع، وتكاثفت أيضاً الإشاعات حول احتمالات عودته إلى المشهد من جديد عبر بوابة مجلس السيادة في ظل انتقال مدني كامل للسلطة في المرحلة المقبلة. وتداولت بعض مواقع التواصل أنباء عن نشر قوات تأمين كبيرة حول مقر الرجل وأنباء عن مغادرة طائرة أميركية ليلاً مطار الخرطوم تلمح فيها إلى مغادرة حمدوك على متنها إلى جهة غير معلومة.
“نهاية مباشرة للانقلاب”
ونقل حزب المؤتمر السوداني عن بيان لقوى الحرية والتغيير، يوم الإثنين، قوله إن استقالة حمدوك من رئاسة الوزراء “نهاية مباشرة للانقلاب”.
وأضاف البيان أن الاستقالة أيضاً كتبت نهاية اتفاق 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، والذي رفضته قوى الحرية والتغيير من قبل.
واستقال حمدوك الأحد بعد ستة أسابيع من عودته للمنصب في إطار اتفاق مع قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان كان يأمل في أن يمهد إلى الانتقال نحو الديمقراطية.
دعوات متشبثة
في السياق، دعا الأكاديمي عصام صديق، إلى “ضرورة استمرار المليونيات وشعارها الصامت بلافتات”، مقترحاً “إجراء الانتخابات الرئاسية فقط خلال 6 أشهر، بمراقبة البعثة الأممية، وأن يكون حمدوك مرشحاً عن لجان المقاومة المستقلة والخبراء الشرفاء للرئاسة، حيث لن يستطيع أحد هزيمته فهو الزاهد في السلطة والمحترم محلياً ودولياً، ولم يحدث في تاريخ البلاد أن أجمع على شخص كما تم معه”. يضيف، “كان حمدوك وفياً لمبادئه دائماً، فعندما وقع الاتفاق السياسي مع البرهان، كان من أجل حقن دماء السودانيين، ولما لم يحدث وأعيد الاعتقال قدم استقالته، فضلاً عن أنه حتى في مغادرته أهدى السودانيين درباً وطريقاً، وقدم لهم الحل الأمثل وهو الدائرة المستديرة التي دعا إليها في خطابه الأخير، مع تأكيده حتمية انتصار الثورة”.
أما رجل الأعمال، بدر الدين الأمين مدثر، فيعتقد “أن مغادرة حمدوك في هذه المرحلة خسارة للشعب السوداني والبلاد، فقد كان عالماً نزيهاً، لكنه وجد نفسه وسط كماشة من الانقسامات والتشرذم من القوى السياسية السودانية التقليدية في جانب والتسلط العسكري في آخر، وكلاهما يقدم مصلحته على مصلحة البلاد”.
وتابع، “أحب الشعب السوداني الرجل وبادله الود والاحترام، وحتى بعد توقيعه على الاتفاق الإطاري مع المكون العسكري، امتعضوا واستاء الشباب لكنهم لم يكرهوه، وعندما اكتشف خطأ تقديراته في ذلك ولم تحقن الدماء، كما لم يتمكن من تكوين الحكومة التي يرغب في أن تقود معه المتبقي من المرحلة الانتقالية قدم استقالته”.
انفتاح المشهد السياسي
ويرى يوسف عبدالقادر، معلم في المدارس الثانوية، “أن استقالة حمدوك تفتح المشهد السياسي من جديد على كل الاحتمالات، وتضاعف تحديات الدولة السودانية، في مواجهة التشظي الذي يهددها، ولا بد من إعادة النظر في كل المنظومة الحاكمة ابتداءً بالمجلس السيادي، وإعلان ثوري جديد يحدد خريطة طريق جديدة للمتبقي من الفترة الانتقالية”. يضيف، “استقالة حمدوك تتطلب العودة إلى الشارع من جديد لأنه مَن ظل يحرس ويتمسك بالثورة وشعاراتها في الحرية والسلام والعدالة، رافضاً العودة إلى الأنظمة الشمولية العسكرية ومتمسكاً بالدولة المدنية الديمقراطية”.
ودعت الطالبة الجامعية، هدى الرشيد مهدي، شباب الثوار للبحث عن بديل لحمدوك لتحقيق شعارات ثورة ديسمبر في الحرية والسلام والعدالة، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، والقصاص لزمرة الشهداء والجرحى والمفقودين، وعليهم أن يوحدوا الصفوف ويختاروا من بينهم قيادة واعية قادرة على تخطي كل الصعاب التي اختبروها من أجل تحقيق أهداف الثورة.
وداع مختلف ومخاوف
وقالت رقية الطيب، ربة منزل، “إن السودان يودع اليوم رئيس وزراء، الذي اتفق عليه الكثير من دون حتى انتخابات بعد نجاح الثورة، وهو ما لم يحدث منذ استقلال السودان في 1956، ولو أنه لم ينجز غير إعادة البلاد إلى حضن الأسرة الدولية ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب لكفاه ذلك”. وأعلنت عن “تخوفها من أن يندم السودانيون على استقالته الاضطرارية، ويكتشفون لاحقاً أنها كانت بسبب غفلة منهم لن يغفرها التاريخ للمكون العسكري وكل القوى السياسية”.
ويعتقد الناشط السياسي موسى بشرى، “أن الكرة الآن في ملعب القوى السياسية لتقوم بواجبها في تحقيق التوافق العام وتوحيد رؤاها على ضوء مطلوبات الشارع، وتجاوز الانقسامات الداخلية، وتمثيل الإرادة العامة للناس التواقة إلى الحكم المدني والرافضة للحكم العسكري، وأن تقف في الجانب الصحيح المرتبط بآمال وأحلام وتطلعات الشعب السوداني في البناء وتأسيس سودان الحرية والعدالة والسلام”.
في المقابل، لا تزال حالة الانقسام ذاتها في الشارع تجسدها مساجلات منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يرى آخرون “أن استقالته جاءت نتيجة طبيعية لعجزه طوال فترة حكومته في إحراز أي تقدم يذكر على الأصعدة الخدمية والاجتماعية والاقتصادية، إذ ظلت كل أطروحاته تقف عند محطة الأمنيات والوعود”، ويذهب هؤلاء إلى “أن ذهاب حمدوك غير مأسوف عليه، وأن البلاد تحتاج إلى رئيس وزراء قوي الشخصية يمتلك رؤية واستراتيجية واضحة المعالم، يعمل على تطبيقها بإيقاع أسرع مما كان عليه الوضع، حيث أسرف رئيس الوزراء المستقيل في خطابات نظرية تدغدغ مشاعر الناس من دون عمل ملموس”.
الإشاعات والمغادرة
وكانت الأنباء راجت بكثافة ما بين النفي والتأكيد، طوال ديسمبر الماضي بشأن تقديم حمدوك استقالته رسمياً خلال اليومين الماضيين، بينما تحدثت أخرى على لسان مصادر مقربة منه عن اعتزامه الاستقالة، بينما ذهب الآخر إلى القول بأن الاستقالة لم تقدم مكتوبة، وتجددت ثالثة على مستوى الإعلام المحلي ووسائل التواصل الاجتماعي، عن توجيهات من رئيس الوزراء للعاملين في مكتبه بإعداد ملفات التسليم والتسلم.
وأدى عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، اليمين الدستورية في 21 من أغسطس (آب) 2019، وعاد إلى السودان وهو يحلم ببناء مشروع وطني عريض لا يقصي أحداً، معتبراً أن المنهج البراغماتي في الإصلاح الاقتصاد السوداني سيكون فعالاً ومثمراً، فضلاً عن أولوياته في وقف الحرب وصلاح العلاقات الخارجية، وتم عزله من منصبه في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعد انقلاب الجيش. وفي 21 نوفمبر العام الماضي، وقع على الاتفاق السياسي مع الفريق البرهان، وعاد بموجبه من جديد إلى منصبه وسط احتجاجات حاشدة مستمرة وانتقادات خارجية.
المصدر: اندبندنت عربية