أربع سنوات من “دبيب النمل” وخمس أخريات من الصبيب الناري الروسي ومئات البيانات من الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية، أسدلت الستار عن أكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث ضمن أعنف مسرح للحرب في سوريا، ولم تنقذ تصريحات قادة العالم وخطوطهم الحمراء، عشرات آلاف القتلى والجرحى في مدينة حلب، بصواريخ راجت اليوم في سوق السلاح العالمي بصفقات متتالية.
سيطر حلف النظام وروسيا وإيران على مجمع الكاستيلو في 26 من تموز من عام 2016، وأحكم بذلك حصاره مدينة حلب، لتبدأ غرفتا عمليات “جيش الفتح” و”فتح حلب” معركتهما الأولى لفك الحصار عن المدينة في 31 من الشهر نفسه ويتم الإعلان عن فك الحصار من جهة الجنوب فجر السادس من شهر آب، بعد أسبوع من المعارك التي لم يشهد الميدان السوري يوماً مثل ضخامتها وشراستها. فشلت معركة فك الحصار الأولى بعد أيام باستعادة النظام سيطرته على كلية المدفعية في مساء الرابع من أيلول 2016.
في محاولة ثانية لكسر الحصار عن المدينة، شنت غرفتا العمليات هجوماً واسعاً يوم 28 من تشرين الأول 2016، إلا أنه فقد زخمه بعد أسبوع من المعارك الطاحنة جنوب وغرب المدينة، سقط خلالها مئات القتلى من مقاتلي الفصائل ودُمّرت عشرات العربات والمدافع بسبب كثافة القصف في هذه المنطقة الضيقة.
يكشف أسامة أبو زيد الذي شغل منصب المستشار القانوني للجيش الحر، وعلاء عدنان أيوب، الملقّب بـ “الفاروق أحرار” القيادي في حركة أحرار الشام الإسلامية ومسؤول التفاوض عن فصائل مدينة حلب، لموقع تلفزيون سوريا عن تفاصيل ومجريات المفاوضات التي انتهت باتفاق “الخروج الآمن” بين وفد المعارضة وروسيا برعاية تركية في الثالث عشر من كانون الأول.
دعت تركيا فصائل “غرفة عمليات فتح حلب” و”حركة أحرار الشام الإسلامية” وطرحت عليهم وساطتها للتفاوض مع موسكو بعد تحسن العلاقات مع الأخيرة عقب إسقاط الطائرة الروسية وتقدمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العزاء لعائلة الطيار.
يروي أسامة أبو زيد تفاصيل اللقاء الأول، الذي قدّم فيه المسؤولون الأتراك تصوُّرهم المبدئي لوفد الفصائل العسكرية عن هدنة إنسانية في مدينة حلب لوقف تدهور الحالة الإنسانية وفتح ممرات إنسانية بعد وقف لإطلاق النار وخروج “جبهة النصرة” من المدينة، وسألوا الوفد عن موافقتهم للجلوس مع مسؤولين روس لمناقشة تفاصيل الأمر.
يتابع أبو زيد، “بعد فشل المعركة الثانية لفك الحصار عن المدينة، والعلاقة الطيبة بين تركيا والفصائل العسكرية، رحبنا كوفد بالمقترح التركي، لكن بحذر شديد”، وبدأت جلسات التفاوض بحضور وفد المخابرات العسكرية الروسية برئاسة الأميرال إيغور كوستيوكوف، الذي تمت مكافأته من قبل موسكو على “جهوده في سوريا” وتعيينه في 22 من الشهر الماضي رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، ورحّب كوستيوكوف بالطرح التركي ودعمه بشكل عام، بعيداً عن التفاصيل التي أظهرت النقاشات حولها لاحقاً تباعداً كبيراً بوجهات النظر، حتى بين الروس والأتراك!”.
قدّم الأميرال الروسي طلبات بلاده بخروج تنظيم الدولة وجبهة النصرة من المدينة وإصدار وزارة الإدارة المحلية التابعة لنظام الأسد مرسوماً بتأسيس مجلس مدني لإدارة حلب الشرقية، وإصدار عفو عن كل الملاحقين، وأكمل أبو زيد “أوضحنا لهم أنه ليس هنالك أي وجود لتنظيم الدولة في مدينة حلب، وشدّدنا على رفضنا وجود أي جهة مدنية تتبع للنظام، لوجود مجلس مدينة يدير شؤونها منذ سنوات، كما رفضنا المطلب الأخير لأن قبوله سيكون اعترافاً بأن المستهدفين بهذا القرار هم مجرمون وليسوا ثواراً، في هذه الجولات كان المسؤولون الأتراك يركزون على تقريب وجهات النظر والوقوف على مسافة محددة من الروس، وفي الوقت نفسه الثبات على دعم الثورة”.
وبحسب أبو زيد، خفّض الوفد الروسي طلباته بعد نقاشات مطوّلة، إلى إخراج جبهة النصرة من المدينة، وفتح ممر إنساني لإخراج المصابين ومعالجتهم في مشفى ميداني تُقيمه روسيا في مناطق سيطرة النظام من المدينة، الأمر الذي تم رفضه بشدة لاحقاً والتأكيد على أن تكون مهمة الممر الإنساني، هي إدخال كل أنواع المساعدات الإنسانية ودخول أطباء إلى داخل المدينة، وخروج من يريد من المدنيين إلى باقي المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل العسكرية.
وأوضح أبو زيد أن “موقف بعض الفصائل كان غير حاسم تجاه جبهة النصرة، لذلك لم يتم فرض خروج النصرة من المدينة فرضاً، إلا أن حركتي نور الدين الزنكي وأحرار الشام تكفّلتا بإخراجهم من المدينة بشكل أو بآخر”، وبذلك تم التوصل لاتفاق نهائي يقضي بخروج النصرة من المدينة وفتح ممرات إنسانية لدخول المساعدات وخروج من يرغب من المدنيين.
ولفت أبو زيد في حديثه إلى أن وفد الفصائل العسكرية طلب بأن يشمل الاتفاق النهائي منطقتي التل بريف دمشق والوعر بمدينة حمص لأنهما كانتا مهددتين بالتهجير القسري، وأبدى الروس موافقتهم على الاتفاق النهائي، وأخبروا وفد المعارضة والمسؤولين الأتراك بأنهم ذاهبون إلى دمشق لمدة 24 ساعة كي يوقع النظام عليه.
وأكمل أبو زيد، بأن الوفد الروسي عاد بعد 9 أيام، سقطت فيها معظم أحياء المدينة الشرقية بيد قوات النظام وروسيا وإيران، ليطالب بصياغة اتفاق جديد بحجة أن الظروف الميدانية قد تغيرت، وعرضوا على وفد المعارضة اتفاقية “خروج آمن للجميع” عبر معبر الراموسة.
أثناء غياب الوفد الروسي في دمشق، صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 2016، وبعد 5 أيام من انطلاق عملية “درع الفرات”، أن قوات بلاده دخلت سوريا “لتضع الحد لحكم الطاغية الأسد الذي يرهب السوريين بدولة الإرهاب”، الأمر الذي تذرّع به الروس لنقض الاتفاق الأول.
أشار أبو زيد في حديثه إلى أنه في الفترة التي غاب فيها الوفد الروسي، كثّف الطيران الروسي من غاراته على المدينة لتركيعها ما دفع المدنيين للخروج عشوائياً عبر الممرات التي فتحتها روسيا على أطراف المدينة، وأن الوضع المنهار ضمن موجات من آلاف البشر النازحة من الأحياء الشمالية في المدينة إلى الجنوبية منها، وخروج الآلاف من المدينة عبر المعابر التي فتحتها روسيا، ودون أي قدرة على مزيد من الصمود العسكري على الجبهات وفق هذا الظرف المأساوي؛ لم يكن هنالك أي أوراق بين أيدي وفد المعارضة لتحصيل مكتسبات إضافية في المفاوضات، علماً أن وفد المعارضة تواصل مع قيادات الفصائل في المدينة لمناقشة خروج المدنيين فقط دون العسكريين، إلا أن معظم القيادات أكدت أن المقاتلين لن يكون لديهم دافعاً للقتال دون عائلاتهم في منطقة محصورة بـ 4 أحياء مدمرة فقط من كل المدينة.
بدأ النظام بقضم أطراف المدينة بسيطرته على حي هنانو الواقع أقصى شمال المدينة في 28 من تشرين الثاني 2016، ليصل إلى منطقة جسر الحج بعد سيطرته على 10 أحياء أخرى في الثاني عشر من كانون الأول 2016، وحوصرت عشرات الآلاف في 4 أحياء بكثافة سكانية سهّلت على الروس والنظام والإيرانيين قتلهم بتكلفة أقل، في حين صمدت الفصائل العسكرية في جبهتي الإذاعة والشيخ سعيد وأسرت 7 عناصر للنظام وقتلت العشرات منهم خلال 5 أيام من المعارك المستمرة والعنيفة.
تصدعت أركان الفصائل بعد تنظيم فاق التوقعات رغم ظروف المعارك التي لم تتوقف في المدينة ومحيطها منذ نهاية 2013، ومع سياسة الأرض المحروقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، باتت كل مجموعة معنية بنفسها ثم بات كل مقاتل معني بنفسه وبأهله، أما مَن تبقّى على خط النار الملتهب، فقد كان بين المقاتل والآخر مسافة كافية ليدخل منها فرقة كاملة من قوات النظام بمدرعاتها.
كان الوصف الوحيد من قبل الموجودين داخل المدينة في مكالماتهم السريعة والمقتضبة مع ذويهم خارجها، “يوم القيامة”، الذي تكرر على مدار 20 يوماً، ما بين سقوط حي هنانو وبدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار.
في هذه الفترة التي كان يُلملم فيها الحلبيون لحوم أطفالهم المتناثرة في مقابر جماعية حُفرت بعجالة في حدائق المدينة، كان قد تم الإعلان عن تشكيل “جيش حلب” مما تبقى من فصائل المدينة في الأول من كانون الأول 2016، وتم تفويض علاء عدنان أيوب، الملقّب بـ “الفاروق أحرار” بقيادة المفاوضات مع الروس.
يقول “الفاروق” إنه بعد محاولات عدة لإيصال صوتهم للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، عبر مذكرة أصدرها مجلس قيادة حلب، والرد الأوروبي بأن موسكو لا تتجاوب مع الضغوطات، قام بطلب التواصل مع روسيا عبر وسيط من الهلال الأحمر السوري الذي كان قد تواصل معه قبل عام من حصار المدينة بطلب من الروس للتفاوض ورفض حركة أحرار الشام الأمر في ذلك الوقت الذي كان يشغل فيه “الفاروق” منصب مسؤول العلاقات العامة في الحركة.
وعرض “الفاروق” على الروس مبادرة لوقف القصف وفتح ممرات إنسانية للمدينة، وجاء الرفض الروسي مع التهديد باعتبار الجميع “إرهابيين” في حال لم يخرجوا، في الوقت الذي لم يكن هنالك أي وسائل ضغط سوى تركيا التي كانت على تواصل مع موسكو.
في الوقت الذي طرح فيه “الفاروق” مسألة التفاوض مع الروس، كانت الفصائل والجهات المدنية الفاعلة تناقش فكرة خروج من يرغب من المدنيين فقط عبر ممر آمن، وبقاء الفصائل العسكرية ومن يريد ذلك، إلا أن الحالة الإنسانية كانت في أسوء حالاتها، وتبيّن هذا الأمر بعد أن أجرى “الفاروق” جولة على الفعاليات المدنية بمختلف المجالات لتقييم مقوّمات الصمود، ليتّضح أنها لا تتجاوز الـ 25% من المطلوب، وذلك سبب سقوط معظم الأحياء بيد قوات النظام وروسيا وإيران وفقدان المشافي والمستودعات الطبية والإغاثية، التي كانت ستعطي المدينة قدرة على الصمود مدة سنة كاملة.
ومع اشتداد القصف الروسي على الأحياء المتبقية من المدينة باكتظاظ سكاني بلغ أكثر من 10 أضعاف العدد السابق، بدأ الثوار يفكرون بالخروج من المدينة.
يتابع “الفاروق” شرحه لمجريات المفاوضات، “هنا كنت على تواصل مباشر عبر الهاتف مع الجنرال الروسي فلاديمير سافتشينكو -الذي أصبح فيما بعد رئيس ما يُعرف بـ “مركز المصالحة الروسي”-، وطلب لقائي على أوتوستراد الراموسة جنوبي المدينة، وهدّد بشكل حازم بإعلان ما تبقى من حلب منطقة عسكرية في حال لم تخرج أول قافلة من العسكريين الساعة العاشرة مساء، استشرت العسكريين واتفقنا على رفع الجاهزية القصوى على الجبهات، وثم وافقت على مقابلته في المكان المحدد وشرحت له صعوبة المطالب الروسية وخطورته وعرضت عليه عدة عروض وتكلمنا بالتفاصيل، إلا أنه أخبرني بعد ساعة أن القيادة الروسية رفضت كل العروض المُقدّمة، وأنها مُصرّة على اتفاق الخروج الآمن فقط”.
أرسل الجنرال سافتشينكو مسؤولاً من الهلال الأحمر السوري إلى “الفاروق” الذي أرسل معه تسجيلاً مصوراً يظهر الحالة المتدهورة، ودخل في جولة جديدة من المفاوضات والتركيز على أن الإخلاء يحتاج الكثير من الترتيبات ومزيداً من الوقت، ليعطي بعد ذلك الروس ثوار المدينة مهلة إضافية.
كان الاتفاق يسمح للفصائل العسكرية بإخراج الأسلحة الخفيفة من نوع بي كي سي وما دون، وجعبة دون ذخيرة، وعدد محدود من الحقائب، ثم تمكن “الفاروق” بعد محاولات عدة من إقناع الجنرال الروسي بالسماح بإخراج السيارات، خاصة أن الأخير كان يُطالب بسرعة الاخلاء “لأنه يتعرض لضغوطات من إحدى الأطراف ويقصد بذلك الإيرانيون”.
وصلت صباح الخامس عشر من كانون الأول 2016 الدفعة الأولى من الجرحى وذويهم إلى منطقة الراشدين بريف حلب الغربي، بعد أن فتح عناصر النظام النار على سيارات الإسعاف وفرق الدفاع المدني عند معبر الراموسة، إلا أن اليوم التالي من التهجير شهد في أحداثه المتتالية مخاطر وتهديدات بانهيار الاتفاق ووقف إخلاء عشرات آلاف المدنيين المنتظرين في البرد بمنطقة الراموسة، عندما احتجزت ميليشيات إيرانية إحدى قافلات التهجير على اتوستراد الراموسة، وأعدمت قرابة 10 أشخاص ميدانياً وانهالت بالضرب على عشرات الرجال والشبان بعد تجريدهم من ملابسهم.
يوضّح “الفاروق” ما حصل ذلك اليوم، “كنت على تواصل مع بعض الأشخاص من القافلة واتصلت مباشرة مع الجنرال سافتشينكو لأخبره بالخرق الحاصل بالاتفاقية، لينكر فوراً علمه بالأمر، وأخبرني أنه سيتوجه فوراً إلى مكان الحادثة، بعد ساعات وعشرات الاتصالات تم إعادة القافلة مشياً على الأقدام، ثم في الساعة الحادية عشر ليلاً ذهبت إلى معبر الراموسة لاستلام 11 أسيراً كانوا بحوزة الميليشيات الإيرانية”.
أرادت إيران من هذا الاعتداء الكبير أن تزج بلدتي كفريا والفوعة ذوات الأغلبية الشيعية، في مجريات المفاوضات لإخراج أي عدد ممكن من أهالي البلدتين ومقاتليها، إلا أن أبو زيد اعتبر أن “هدف إيران من إدخال ملف البلدتين الشيعيتين لا يقتصر على إخراج المئات منهما إلى مناطق النظام، إنما ذلك يعني تدخّل جبهة النصرة باتفاق حلب، وبالتالي تعطيله لما سيترتب على ذلك من إشكالات وتعقيدات”.
لفت الفاروق في حديثه إلى أن المفاوضات التي كان يجريها مع الروس والإيرانيين كل على حدة، أظهرت بشكل واضح الخلافات بين الطرفين، إلا أنه في الوقت نفسه كان الطرفان يصعّدان عسكرياً وبالقصف الجوي والمدفعي عندما كانت المفاوضات تشهد تعثراً.
تم الاتفاق على خروج 4000 شخص من كفريا والفوعة بإدلب، مقابل خروج محاصري مدينة حلب، و1500 شخص من بلدتي الزبداني ومضايا بريف دمشق، ليتعرض الاتفاق لخطر الانهيار بعد اعتداء من وصفهم الفاروق بـ “الحمقى والعملاء” الذين أحرقوا حافلات جاءت لتقل مهجري كفريا والفوعة في اليوم الثالث من التهجير، الأمر الذي أوقف علمية إخلاء المدنيين والمقاتلين من داخل مدينة حلب التي كانت مكسية بالثلوج، واستمرت العملية لاحقاً بعد جولة من المفاوضات والاتصالات المكثفة مع الروس والإيرانيين لتأمين طريق خروج حافلات كفريا والفوعة من قبل فصائل جيش الفتح.
وخرج “الفاروق” في الدفعة الأخيرة التي وصلت منطقة الراشدين الساعة الحادية عشر ليلاً من يوم 22 من كانون الأول عام 2016، ليصبح هذا التوقيت، تاريخ سقوط المدينة رسمياً، وخاتمة لما وُصفت بأنها “أخطر مدينة في العالم”، المدينة التي قدمت الآلاف من أبنائها قرابين على عتبة الحرية المنشودة منذ أول شهيد فيها محمد عبد الرزاق أكتع.
وأطلق بعض المقاتلين قبل خروجهم طلقاتهم الأخيرة ضد عدوهم، معلنين نهاية معركة الفرقان التي دخل بها “الصالح” ورفاقه المدينة في الثاني والعشرين من تموز عام 2012.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا