قبل واحد وخمسين عاماً وعدة أسابيع، كان حافظ الأسد قد ضمن تأييد الروس والأمريكان لانقلابه المرتقب، وذلك بعد أن قَبِلَ بمبادرة “وليم روجرز” وزير الخارجية الأمريكي المعلنة في الخامس من حزيران- يونيو عام 1970، وتنص المبادرة على وقف القتال لمدة ثلاثة أشهر، بين الطرفين: المصري/السوري من جهة، والإسرائيلي من جهة ثانية، ذلك القتال الذي عرف عربياً بـ (حرب الاستنزاف) تمهيداً للدخول في مفاوضات تقود إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 الذي يقضى بانسحاب إسرائيل من “أراضٍ” احتلتها خلال حرب الخامس من حزيران- يونيو 1967، لكن إسرائيل المستفيد الأكبر من تلك المبادرة لم تلتزم بتنفيذ القرار.. إذ كانت غايتها وقف حرب الاستنزاف التي كانت توقع بها خسائر كبيرة على الصعيدين المادي والبشري.. وللعلم أن حافظ الأسد كان ضد التنسيق مع مصر لأن عبد الناصر قبل بالمبادرة ذاتها..
جناحا البعث
في ذلك الوقت كان الصراع على أشدّه بين جناحي البعث “العسكري” و”المدني” ورأسيهما صلاح جديد، وحافظ الأسد، ومن ضمن مفردات ذلك الصراع كان الخلاف حول الكيفية الأفضل لاسترداد الأرض التي احتلتها إسرائيل عام1967 فقد رأى المدنيون أن حرب التحرير الشعبية أجدى نفعاً، فهي التي توقع خسائر بشرية لدى عدو معظم سكانه مهاجرون، ويمكن أن تؤثر فيهم نتائجها… وهذا ما يرعب إسرائيل، إضافة إلى أن الحرب الشعبية تصبُّ في توجُّه منظمة التحرير الفلسطينية… بينما رأى العسكر أن إسرائيل تملك جيشاً قوياً، لا يقابله إلا جيش يماثله… والحقيقة أنَّ عمق الصراع في تفكير حافظ الأسد كان يتركز على السلطة، وأن حرب التحرير الشعبية قد تضعفه في وقت، كان قد انتهى فيه من ترتيب الجيش لصالحه.
ورغم أن الجناح المدني حاز على الأغلبية في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي المنعقد عام 1970، وقرر إبعاد كل من شغل منصباً قيادياً في الحكومة على مدى أربع سنوات متصلة، ما يعني شموله حافظ الأسد ومصطفى طلاس وآخرين.. وهكذا وجد حافظ الأسد في القرار تبريراً لانقلابه الذي مكَّنه من السلطة دون أي منافس مع تأييد دولي وعربي ومحلي، واعداً بانفراج سياسي واقتصادي.. وبذلك انفرط عقد اللجنة العسكرية فأودع رفاق الأمس السجنَ، فيما قتل بعضهم قبل الانقلاب وبعده (عبد الكريم الجندي ومحمد عمران)، بينما مضى حافظ الأسد إلى تأسيس دولته الأمنية العميقة المستمرة في عهدة الوريث الابن، وماضية على النهج نفسه..
أسس حافظ الأسد دولته الأمنية العميقة معتمداً على الجيش وأجهزة الأمن بفروعها المتعددة أساساً مكيناً للحفاظ على السلطة، وعلى ضبط العمل السياسي من خلال ميثاق الجبهة التي ضمت أحزاباً لها نشاطها البارز في خمسينيات القرن الماضي.. (برهن وجود تلك الأحزاب على أن الديمقراطية يمكن أن تمارس في البلدان الأقل تطوراً في أنسجتها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية عموماً، كما أعطت صورة مشرقة بممارسة العمل الوطني، وبإيجاد حالة من التوازن تجاه الصراع على سوريا بعد الحرب العالمية الثانية..) لكن الأسد ضبط بنية الدولة بما يلغي السياسة كلياً، إذ لا سياسة فعلية دون وجود أحزاب، فقد نص ميثاق الجبهة على أن حزب البعث هو القائد في الدولة والمجتمع.. ومنع نشاط أحزاب الجبهة الأخرى من النشاط بين الجيش والطلاب. فالجيش مرتب للحفاظ على النظام الذي يعدُّه الأسد أبدياً..
أما الطلاب فمستقبلهم مهندسون وأطباء، ورجال قانون وقضاء، وأساتذة جامعات.. إلخ. ما يعني أنهم قادة المجتمع الفعليون، فهؤلاء سوف ينتظمون في المؤسسات المدنية من نقابات ومنظمات مختلفة تعمل تحت إشراف أعضاء القيادة القطرية التي يسميهم حافظ الأسد بالذات..
أهم أركان الاستبداد
صحيح أن هذا النهج يفتح باب التزلف والانتهاز، وبالتالي الفساد الذي يخرب ضمائر هؤلاء القادة وقيمهم.. وما المشكلة؟
فالفساد واحد من أهم أركان الاستبداد، فإن كان ذا نفع لصاحبه لقاء عبوديته.. فهو سلاح فعَّال بيد المستبد لا للتسبيح برأس المستبد فحسب بل ليستخدمه عند الضرورة.. ومن هنا ربما منح حافظ الأسد الطلاب البعثيين ميزات تحدُّ من ذهابهم إلى الأحزاب الأخرى مثل القبول في كليات لا تؤهلهم علاماتهم في الثانوية العامة الدخول إليها.. وذلك يحد من ذهابهم إلى أحزاب أخرى وإن كانت ممنوعة.. كما كان يمنح كبار الضباط رشاوى مباشرة في مناسبات محددة إضافة إلى إطلاق يدهم في شؤون ميادين عملهم بمن في ذلك مرؤوسوهم.
لم يكتف حافظ الأسد بكل الممنوعات التي فرضها، بل أضاف إليها حالة الطوارئ، وكانت قائمة بالفعل، لكنه أعطاها صفة الديمومة تحت ما يسمى بحالة الحرب مع العدو الإسرائيلي المستمرة منذ نحو ستين عاماً، ولم تحدد تلك الحالة بزمن أو تؤطر بقانون، حتى بات أيّ مواطن مهدداً بشخصه، وبحرمة بيته.. وغدا عرضة للافتراء عليه من أي مخبر، ولأي سبب أو خلاف عادي، وأحياناً لمآرب خاصة. والويل لمن تقع عليه تهمة الأخونة أو الانتماء لحزب العمل الشيوعي، أو حزب الشعب الديمقراطي، وسواهم فيضطر ذوو من تقع عليهم الواقعة، للبحث عن وسيط ينقذهم، وما أكثر هؤلاء، فقد افتتحوا لأنفسهم مكاتب سمسرة، أطلقوا عليها اسم علاقات عامة، وهؤلاء من ضمن دائرة الدولة الأمنية العميقة! وعلى من يقع أن يدفع.. وأما الإفراج فمنوط بأمر التعهد الخطي بترك العمل في السياسة وبقبول التعامل مع الجلاد “خدمة للوطن..”
الأجهزة الأمنية
إضافة إلى كل ذلك فقد أعطيت الحرية للأجهزة الأمنية للعبث بأحزاب الجبهة، تقسيماً، وشراء ذمم.. وللأمانة يمكن القول إن بعض أعضاء تلك الأحزاب تماهت على نحو طبيعي بحزب البعث، وبالقائد الأبدي، بينما غلبت بعضَها الصراعاتُ حول بعض الفتات الذي كانت تلقيه السلطة بدءاً من عضو اللجنة النقابية، وليس انتهاء بمدير عام مؤسسة ما، أو بعضوية مكتب تنفيذي لتنظيم نقابي أو لمجلس بلدي أو محافظة.. أو لأكثر من ذلك مثل مجلس الشعب، أو الوزارة، حتى وإن كانت بلا حقيبة. حتى إن بعض الراغبين من رجال الأعمال الطفيليين، بمثل تلك المراكز أخذوا يدفعون لبعض الأمناء العامين لأحزاب الجبهة مقابل ترشيحهم إلى هذا المكان أو ذاك، فالدفع لهؤلاء أقل من الدفع لأمناء فروع حزب البعث، أو لأعضاء القيادة القطرية، وبالطبع على الراغب بمثل تلك الأمكنة إرضاء أجهزة الأمن أيضاً.. إن ذلك كله ساهم في تفتت تلك الأحزاب، كما ألغى وجود معارضة طبيعية، ومتوازنة يمكنها ملاقاة طموح الشعب إذا ما واتته ظروف مناسبة.. ومن هنا آلت سوريا إلى الخراب والاحتلال.. وربما إلى التقسيم مستقبلاً! كما آل شعبها إلى التشتت في أصقاع الأرض، فالمعارضة اليوم أشياع ومكونات ولم تستطع امتلاك صوت سوري واضح، يقنع العالم بمبررات ثورة شعب طامح إلى الحرية، وبناء دولة المواطنة، والقانون وتنمية مجتمعها بما يساهم بتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية بعيداً عن أي تطرف وأي إيديولوجيا يمكن أن تخضعها السياسة لأمزجة قادتها، ولرغباتهم النفعية التي غالباً ما تعلو فوق مصلحة الوطن والمواطن..
كاتب من سوريا
المصدر: القدس العربي