ما لم أقُلْهُ، ولم تقُلْهُ الشامُ

أحمد مظهر سعدو

استوقفني الحاجز الأمني، بين قدسيا ودمر، بينما كنت في طريق العودة من عملي، كان اليوم الأخير من شهر آب اللهاب/ أغسطس 2014. صعد معي المركبة التي كنت أقودها أحد عناصر الحاجز، وأمرني بالمسير نحو مسؤول الحاجز على بعد أمتار. وقفت أمام شخص بشكله القميء وبنظراته الحاقدة، هو رئيس حاجز (الصفصاف) وهو الذي أعطى الأمر لزميلي الذي كان معي في المركبة بالانصراف، في تحذير له بعدم التكلم عن كل ما رأى أمام أي إنسان. ثم أمر العنصر الذي رافقني إليه بتجريدي من كل مقتنياتي، وأوراقي التي أحملها في جيوبي. عندما حاولت السؤال عن الذي فعلته كي يحصل لي ذلك، أجابني أنها الأوامر بتوقيفك، ونحن ننتظر الدورية المكلفة لتمسك بك وتجرك إلى فرع المنطقة. / الفرع 227. حاولت السؤال مرة أخرى، فانهالت عليَّ الشتائم من كل حدب وصوب، وهددت بعقوبة الشبح على الشجرة المجاورة، إن حاولت الاستمرار بالأسئلة، فما كان مني إلا أن صمت ووقفت تحت شمس آب أنتظر الدورية. جاءت الدورية بعد ساعتين من الانتظار أو يزيد، أمر رئيس الدورية عنصرًا معه بأخذ السيارة التي كانت معي وحجزها في الفرع. وتم وضع (الكلبشة/ القيد) في معصمي، وتم جري إلى سيارة أمنية كانوا يستقلونها. في مركبة الاعتقال حاولت مرارًا الاستئذان من رئيس الدورية للتحدث بهاتفي المصادر كي أُعلم أسرتي بما آل إليه وضعي، وكان يرفض ذلك إلى أن وافق بشرط عدم الإفصاح إلى أين الذهاب، أو الحديث عن كوني أصبحت معتقلاً.
كان الطريق طويلًا جدًا فالأفكار والهواجس تتصارع داخل مخيالي، كما المصير المجهول لهذا الاعتقال، وأنا الناشط والمعارض المعروف، علاوة على جملة من التخوفات الكبرى المتعلقة بعلاقاتي مع بعض الأقرباء والأصدقاء في العمل الوطني المسلح.
طافت بنا المركبة الأمنية على أكثر من منطقة أو موقع أمني تابع لهم، وفي كل موقع كانوا يحققون معي ويثبِّتون بعض المعلومات لديهم. حتى وصلنا إلى المدخل الرئيسي للفرع 227. فاستقبلت هناك باللطم والضرب والإهانة، وجرى تسليم أوراقي ومقتنياتي لإدارة السجن أو الفرع، ثم جردت من ملابسي إلا اللباس الداخلي، وأُخذت مع الكثير من الإهانات والضرب إلى مهجع الاعتقال المخصص، وهناك كانت المظاهر التي تدمي القلب قبل الجسد، المكان يتسع لعشرين شخصًا في أقصى الحالات، يُزج فيه ما ينوف عن 160، فليس من مكان حتى للوقوف، والدماء تسيل، ومناظر المعتقلين، تُخرج العقل من مواقعه، تنظر لمن بجانبك فترى جسمه وقد راحت الدماميل تنتشر فيه، وينز فيه أكثر من مكان، جراء التعذيب المستمر، بلا رحمة ولا معالجات صحية أو طبية.
داخل المكان توجد (البخشة) هكذا يسمى المرحاض، وهي عبارة عن زاوية صغيرة بلا باب، فيها جورة وصنبور ماء، يستخدم لكل شيء بما فيه تعبئة عبوات الماء للشرب. يستلقي أمام (البخشة) رجل في الستين من عمره، وقد فقد عقله من شدة التعذيب، يقال إنه تاجر دمشقي، كان متهمًا بتمويل الثورة السورية. بجوار المهجع غرفة للتعذيب، وضعت هنا كي نسمع صراخ المعتقلين فيها، وكي لا نستطيع النوم، وأي نوم يمكن الحديث عنه في هذا المكان، حيث حتى لو استطاع المرء الاستلقاء أو وجد له أي مكان، فالنوم على جنب الانسان ملتصقًا بمن وراءه ومن أمامه، كما أنه لا يستطيع أن يمد رجليه، بل إنه يكون مضطرًا كي تكون الأرجل مطوية، فهناك من يستلقي مكان الأرجل، وهي حالة مؤلمة أن تبقى وقد طويت رجلاك كل الوقت. انتبه الشاب الذي ينام مكان رجلي لألمي من انطواء الرجلين. فقال: يا عم لا ضير من أن تمدها فوقي كي ترتاح، لكني بالطبع رفضت ذلك، وكيف لي أن أضع رجلاي فوق شخص أي شخص.
في غرفة التعذيب المجاورة كنا نسمع الألم والصراخ طوال الليل، وكنا نسمع العظام تتكسر، وكم من معتقل استمروا في طي ظهره بأحد طرق التعذيب المشهورة حتى كُسر الظهر، وسمعنا طقطقته بآذاننا، وصراخه مازال قابع في مخيالي حتى اليوم.
كان مهجعنا (ولأنه الأقرب إلى الخارج) مكانًا اختير لتجميع الجثث قبل إخراجها إلى جهات مجهولة، وكانوا عندما يأتون بجثامين الموتى جراء التعذيب، يحشروننا جميعًا في زاوية المهجع، ووجوهنا إلى الجدار، حتى لا نرى الشهداء، وقد حاولت أكثر من مرة عبر حسي الصحفي أن أسترق النظر لأعد الموتى فكانوا يتراوحون يوميًا بين 3 و7، طبعًا فقط من هذا الفرع، وكانوا يجبرون بعض المعتقلين الشباب على حملهم إلى الخارج ليتم الدفن في أماكن تجميع قتلى السجون والمعتقلات الذين حكى عنهم (قيصر).
كانت أيامًا لا تنسى وتؤكد مدى الحقد والاستباحة لكل شيء، من أجهزة نظام بل عصابة تجاوزت كل المحرمات وانتهكت كل الشرائع السماوية والوضعية. كانوا يدوسون بحذائهم العسكري فوق رؤوس المعتقلين، وكم من مرة مشى المحقق فوق رؤوس المعتقلين، أو وضع رأس المعتقل بين فردتي حذائه أثناء التحقيق معه. علاوة على أننا كنا نسمع منهم شتائم لم نسمع بها في حيواتنا كلها، ولم نقرأ عنها في الكتب.
كان السجن ليس اعتقالاً للأفراد فقط، بل كنا نشعر أنه اعتقال للوطن، كل الوطن، للشام كلها من شمالها إلى جنوبها. ومازال الاعتقال مستمرًا والمجرم طليقًا. وللحديث بقية.

المصدر: اشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى