تعرفت على خالد خليفة في مدينة حلب، وهو فتى لم يحصل على شهادة البكالوريا بعد. وكان يخالطنا ويرافقنا، نحن مجموعة من الأصدقاء، الذين نكبره سنا وسبقناه إلى الكتابة، ومن بين أفراد تلك المجموعة الكاتب محمد جمال باروت، الروائي فيصل خرتش، الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، الشاعر الفلسطيني خالد درويش. وكان لدى خالد خليفة محاولات شعرية في بدايتها، لفتت الإنتباه إلى شاب متوقد الذكاء وطموح، في مدينة كانت موصدة، مثل القلاع الكبيرة التي لا تأتيها الرياح من شمالها ولا من جنوبها. حلب مدينة مغرقة في التقليدية التي ألقت بثقلها على الثقافة، وأدى إنفجار الوضع السياسي في السبعينيات من القرن الماضي إلى انغلاقها، بعد أن تعرضت للاستباحة بالدبابات من قبل جيش آل الأسد، حينما حاولت أن تتنفس هواء مختلفا. وبعد ذلك بقي الجو الثقافي يعيش حالة من الاستعصاء، تحولت مع الوقت إلى عامل إحباط للأجيال الجديدة، التي كانت تبحث عن فضاء جديد بشروط أخرى تنتج كتابة حديثة بمضمون وشكل مختلفين عن السائد والمهيمن.
خالد خليفة من ريف حلب. جاء إلى المدينة ودخل في تفاصيل حياتها الثقافية، ولكنه لم يحس بالحرية والانطلاق إلا حين ذهب إلى دمشق في التسعينيات، وبدأ يفكر في كسب حياته من العمل الثقافي، وكان أكثر ما أخافه هو العمل في الصحافة التي تأكل الوقت والعمر، ولا توفر للصحافي أكثر من رغيف الخبز. ومن كانت لديه موهبه، فإنها تجففها وتقتلها، إن لم ينتبه إلى ذلك ويحصن موهبته ضد المغريات الآنية والسريعة التي تقدمها مهنة الصحافة. ولحسن حظ خالد أنه وعى هذه الحقيقة القاسية وهو في البداية، لذلك اتجه في طريق الكتابة الأخرى، وأقلع كتابة الشعر والقصة القصيرة، واتجه إلى الرواية، وكي يعيش اتجه إلى كتابة المسلسل الدرامي، ورغم أنه نجح بسرعة وكون لنفسة شهرة في هذا الوسط، إلا أن المسألة لم تكن سهلة حين طرح نفسه روائيا ذا نفس مختلف، لأن الوسط الثقافي كان يعج بالحروب والتنافس وصراع المصالح، ولا يمكن أن يبرز فيه إلا من كانت لديه طاقة خاصة قادرة على امتضاض الدصمات، وتحمل المتاعب التي تواجه المواهب الجديدة. وتتمثل في الثالوث الرهيب الذي يشبه الأخطبوط: العقلية القديمة. الرقابة. النشر، ولم يكن ذلك سهلا بالنسبة لكاتب يريد لعمله أن يبقى حرا، ويدخل في صلب الفضاء العام، وما يحبل به من مشاكل تشكل مادة روائية بامتياز.
والتراجع أمام هذه الحواجز لم يكن مسموحاً لأنه يعني التنازال والدخول إلى الحظيرة والانضمام إلى طوابير المدجنين، وقاوم خالد كي يبقى مستقلا يدافع عنه عمله، وكان يردد في أحاديثه والملتقيات التي شارك فيها أن الرواية السورية الجديدة تولد، وتعيش في ظل ثقافة نقدية جريئة، وليس ثقافة مدجنة ومجاملة وخائفة. وساعده أن دور النشر في الخارج (اللبنانية) اهتمت بأعماله وقامت بنشرها، ومنها دار الآداب البيروتية، ولم تكترث بأوامر المنع والحظر الذي تعرض له بعد روايته “مديح الكراهية” التي صدرت العام 2006، وهي تعود إلى مرحلة صعبة من تاريخ سوريا عاشها وعرف تفاصيلها، ولم يكن قد بلغ عشرين عاما، وهي المواجهات التي حصلت في سوريا بين النظام والأخوان المسلمين. ولم يرصد فيها النزاع بحد ذاته، بل القمع السياسي والديني وحالة الكراهية التي تولدت عنه، ويحتل السجن مساحة أساسية في هذه الرواية “السجن يعلمك قوانين بقائك حياً، في خفة الوزن وانعدام الرؤية، يصبح للحياة قيمة مختلفة”. وقبل ذلك رواية “دفاتر القرباط” التي ذهبت نحو الهامش في سوريا، وبدءا من العنوان اتجه العمل إلى الإختلاف والتغريب بمعناه الدرامي.
والقرباط هو أحد أسماء الغجر السوريين، الذين يترحلون في أرياف المدن، لا يستقرون في مكان، ولا يندمجون مع فئة اجتماعية أخرى، ويعيشون من التبصير، وتقديم نوع من الفولكلور الخاص باحتفالات الأعراس، إلى حد أن قرية “العنابية” في ريف حلب تنتظرهم كي يعيدوا إليها البهجة واللهفة للحياة. واللافت في الرواية هو بنائها الجديد الذي يشكل قطيعة مع أساليب تلك الفترة التي كانت متشابهة، ولم تخرج من التقليدية، وأسلوبها السردي الذي يعلي من قيمة المكان ويعطيه حيزا أساسيا، ولغتها الشعرية الجديدة والطازجة البعيدة عن التقريرية، والأجواء التي تدور فيها، وهي متخيلة تحيل إلى الواقعية السحرية وتنحو إلى الغرابة والدهشة. وتشكل هذه العناصر مجتمعة الملامح العامة لرواية مختلفة، ومستفيدة من التراكم الكمي والنوعي الذي حققته الرواية العالمية خلال زمن وجيز، والأهم من كل ذلك هو الوعي الذي يتمتع به الكاتب لما يقوم به، وهذا يأتي من صلة بالمادة الخام التي يختارها، ويعمل عليها، وطرق معالجتها لتصبح عملا فنيا. ويمكن تسجيل ملاحظة على مستوى بناء الشخصيات، وهي أن خليفة يعطي شخصياته هامشا واسعا من الحرية، ولا يترك شخصية تستبد بالعمل، بل هناك توزيع أدوار مدروس.
اللقاءات مع خالد خليفة متباعدة وقليلة، فهو بقي في دمشق، ولم يكن من السهل أن يسافر خلال العقد الأخير بسبب تردي الوضع في العاصمة السورية، وجاءت تداعيات وباء كورونا لتجعل السفر عملا شاقا. واستفاد خالد من بقائه في دمشق على مستوى القرابة من الحدث الكبير. وخلال هذه الفترة التقيته مرتين. الأولى في الدوحة العام 2014. والثانية في لندن في ملطع تشرين الثاني الحالي، وكان مروره سريعا. وسمحت هذه اللقاءات بالحديث سريعا، ولو في صيغة شيفرات وكودات أحيانا. كلانا يعرف أن الوقت قصير وعلينا أن نقول كل شيء بسرعة، فنتحدث بلغة البرقيات. واستطيع في كل مرة أن أفهم منه آخر تطورات مشاريعه الروائية وكيفية العمل عليها. وهي مشروعات كثيرة تسير وفق خط بياني تصاعدي. وما بين اللقائين يعترف خالد بأنه صفى حسابه مع تجربة حلب التي كانت مادة أعماله الروائية في المرحلة الأولى، التي ضمت كل من حارس الخديعة 1993، دفاتر القرباط 2000، مديح الكراهية 2006، لا سكاكين في مطابخ المدينة 2013، والموت عمل شاق 2016. وفي عمله الأخير “لم يصل عليهم أحد” 2019، تحرر من أسر المكان الأول الذي أمضى في قرابة نصف عمره، وذهب فيه نحو التاريخ الذي يجذبه، وهذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها من كابوس الحاضر السوري الذي يمتد لديه من الستينيات، وربما يكون فاتحة لعمل تاريخي آخر يحضّر له منذ أعوام.
يعتبر خليفة أن من واجب الكتابة أن تساهم في كسر التابوهات والاشتباك مع المفاهيم الثابتة والمتخلفة”، ويبدو لي أنه بفضل ذلك أخذ مكانه في الكتابة العربية بهدوء وبطء ومن دون ضجيج، ولكن على نحو راسخ. ولا شك أن حياته وتجربته التي بدأت من مدينة حلب في أواخر ثمانينيات القرن الماضي هي التي زرعت فيه البذرة الأساسية للكتابة التي بدأت مترددة بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسلسلات التلفزيونية. جرب هذه الأجناس جميعها، لكنه سجل بصمته في الدراما التلفزيونية، ومنها أخذ طريقه نحو الرواية، وكانت رواية “دفاتر القرباط” التي صدرت العام 2000 أول عمل يقدم إلى الجمهور بملامح واضحة، وفتح أمامه الطريق كي يضع لنفسه خارطة طريق نحو الرواية التي أصبحت مشروع الحياة السورية في ظل حكم الحزب الواحد، وكما انتظر السوريون كثيرا ليقولوا رأيهم بأنهم غير سعداء ويحلمون بالتغيير، العدالة، فإن من مآثر الرواية السورية أنها لم تنتظر دعماً من أية مؤسسة رسمية، لا قبل ولا بعد، ولا حاجة لمؤسسات ثقافية من واجبها إعاقة وجود أية ثقافة، خاصة الثقافة المدنية والنقدية.
المصدر: المدن